النتائج 1 إلى 11 من 11

الموضوع: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

  1. #1
    مميز الصورة الرمزية النمر
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    jeddah
    المشاركات
    1,269
    معدل تقييم المستوى
    137

    قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    اعجلتني هذه القصص فاحببت أ نتشاركوني فيها ....................... لذلك نقلتها لكم ......

    [align=cente

    r]قصص قصيرة جداً




    زيـد الشهيد




    يقظة الزمن الدفين




    (1) ... تنتَظرُ


    لو قُدِّر لها النهوض والتحرك لاختارت جهة النهر , وخلّفت عالمها المحنّط مستعينةً بالماء وجهاً تحاورهُ وروحاً تبثّـّهُ آهات السنين المتهافتة بجمود سرمدي جاثم , تسألهُ عن فحوى الأمر وما آلَ إليه حال الحبيب الذي تركت لديه أنفاسَ اللقاءات الحميمة , ثم طفقت بعد زمن تتساءل : أينَ أصبحَ ؟ وما جرى له ؟ أما زالَ يتكىء على أحاديث تحاورا خلالها عن مستقبلٍ رسماه وصممّـا على أنْ يجسّدانه إرتشافاً , أم أنّ ذلك غدا من حكايا النسيان ؟
    سمعت تعثرات خطى فاستدركت أمراً .. تنصتت لتتسمع .. وصلتها ضربات معاول تجاور القبر , وهمهمات تتبعها تمتمات .
    صوتُ رجلٍ يخاطب فتى :
    - هيّـا أسرع , أنهم على وشك الوصول .
    فيجيبه الفتـى :
    - قالوا عنه متوسط القامة .. إذا كان كذلك سننتهي من الحفر قبل وصولهم .. سنرضيهم و...
    ولم تسمع بقية الكلام . ضاع وسط تصادم شفرة الفأس بصلابة الأرض .
    همست في سرّها:
    - مَن يكون ؟ ... فتواردت أسئلة صدى يملأ البرية ويشيع : مَن يكون ..من يـ..
    إستمرت منصتةً تطردُ ثقلَ الأعوام وتجاهد لنيل لحظات وعي يبقيها عائمة في هلام تجلّـي الموقف.
    - ها هُم قادمون .. أبصرهم من بين الشواهد .. ألم تكمل بعد ؟ ..
    ارتفع لومُ الرجل , فردَّ الفتى من عمق الحفرة المستطيلة بصوتٍ كأنّـهُ آت ٍ من غور سحيق :
    - نعم ,, الآن تمَّ كلُّ شيءْ .. ألا تنزل معي ؟
    تذكّرتْ وداعها الأخير له ُ , مثلما أعادت مشهد دمعتين نزلتا كحبتي غيث من عينيه وكلاماً بلون الوفاء الخالص يقول : " بعدَكِ لن يكون لها طعم ٌ . ولستُ بمتأخرٍ عليك ." ..
    وظلـّت تعوم ُ في سراب الانتظـار ... لا تدري كم طالت أذرع الزمن , وما عدد السنين التي تعاقبت , سوى أنها كانت تستيقظ على انهيال معاول هنـا وهنـاك , أدنى حدود المقبرة فتفزُّ لديها جملة الأسئلة المُعادة : " مَن يكون ؟ .. هو أم غيره ؟.. هل هو الآن بذلك البهاء كما تركتهُ أم " يا دار كم فعلت بك ِ الأيامُ؟ .[ لقد اعتادت النهوض مع آخر كفِّ تهيل حفنة التراب فتروح تبحث في يباب البريّة – بين الموتى الجدد – لعلّها تراه فترتمي عليه , تولي لرأسها مهمّة الاتكاء على صدره , ثم الانطلاق بوحاً / مفضيّةً ألم الفراق , ورهبة الوحشة , وثقل اللحظات . ]
    تناهى صوتُ الرجل مرحباً مقدماً كلمات العزاء المعهودة , ثم متحركاً استعداداً لإيـلاج الضيف في حفرةِ المنتهى استعانةً بالفتى وفق َ التقليد الذي حفظه ُ ومارسه باضطراد..
    أرهفتْ أقصى مجسّات السمع سعياً للتعرف على اسم الراحل من أفواه المشيعين فربما يكون هو َ ... لكنَّ الوجوم كانَ صفةَ المتحلقين , والصمت يهمي رذاذ َ سطوتِهِ في فضاء النفوس جاعلاً الموقفَ جللاً ,, تاركاً الجميع في اكتناف الذهول .
    وكانَ عليها – كآخر رجاء ِ – التقاط كلمات الدعاء التي ستندفع من فم الرجل الدفّان يُعلن الاسم َ واسمَ الأمِّ لتدركَ حينها صدقَ وعدٍ قطعهُ لها ,, وإلاّ سينطعنُ قلبُ أملِها بخنجر الخيبةِ وتتهالك – واهيةً / خاوية – فكرةُ اللقاء الأبدي لحبيبين تعاهدا على الوفاء صدقاً والتزامــاً .



    (2)... تأمَلُ


    لأولِ مرّةِ يراودها شعور بالوحدة ِ فتحسُّ بوحشة القبر وهمود الأجداث .. في إذنيها تتحنط الأصوات الحيّة لأفواه المارّةِ ويصمت نفير العربات خارج سور المقبرة فتنفضُّ من حومة الأمل وتروح تستدعي طيوفَ الأحزان لتتزاحم عند نافذة تطلُّعِها معيدةً إليها ساعاتِ جفائهِ , ولمحات لامبالاته الطافحة في عينيه .. ثم تذمره من تتابع أسئلتها عن فحوى إبتعاده المتكرر عنها , ومواعيده التي طفقت تتثلّم . [ شرعت تستعيد أياماً صرفتها لائبة كنمرةِ كسيرةٍ على جمر التجنّي والجفاء حتى إنجرفت نحو شرفة اليأس المميت . ثم إكتشفت غب تشبّثٍ ضئيل أنَّ فراقَهُ حتّمتهُ نزوة شبابٍ إبتدأت بفضول التطلّع لحفنة أقران نزقين أعلنوا نتيجة الموجة القرائية لفلاسفةٍ وجوديين أنّ الحياة ليست إلاّ نزوة مارقـة - تحمل صفات متعتها وجمالها , وجذوتها المتأججة -فسحة حسيرة إسمها " الشباب " . وما بعدها لابدَّ من إحكام التسريع نحو النهاية المحببّة : إمّا بشرابٍ قاتل , أو خنجرٍ مشحوذ , أو إستعانة بصعقةِ سلكٍ كهربائي تيقنـاّ من أنّ المتبقي ما هو إلاّ عبثٌ يتسربل بالهبـاء .] .. أفحمت جهدها لوماً في إثنائهِ عن هكذا توجّهِ خاسر وتطلّعٍ مرفوض تستجدُّهُ أفكارٌ هدّامة هدفها تقويض جهد الجمع الإنساني التوّاق للخلـود .
    ولــم تّجـدِ المحاولة ..
    ولــم ينفع اللـوم
    بتراكم إضطهادهِ العبثي لها إنحدرت نحو تخوم العذاب القاتل ,,, فشيّعوها في ساعةٍ متهالكة من أوقات الخيبة ميتةً بعمر الزهور النضرة / النوّارة .[ وبموتها ساورها إطمئنان , وراودتها قناعة أنَّ أياما أو أشهرَ معدودات تصرفها متوسدةً حجارة القبر وسيأتيها _ مطبقاً فكرةً جاهر بها بجوارح ٍ محتدمة _ معانقاً / تائقاً . لحظتها ستقضي معهُ حياةً أبدية ,, شابّان منفتحان على أقصى آفاق الوجد , يغرمان في صهيل من الحبور والجذل .. حسبت موتها فوزاً لصالحها طالما أنّه ُ سيأتي على سحابة زمن قصير . ].. ساكنو القبور المجاورة يبصرونها توارب نوافذ عينيها تطلُّعاً وإنتظاراً فيتأسّون ,, سيما وان بوحها بدنو مجيئِهِ قد تكرر لمرات .. لم يكونوا راغبين في إطفاء نور ِ أملها بركلات التكذيب , كما انهم تحاشوا عرض تجاربهم الخاسرة في إنتظار أحباب لهم أعواما وأعوام بلا جدوى ..
    الأيام ُ تمر .. وتمر ... ومعها مرّت السنين ... خطى المارة تتسارع وتتسارع ..
    نفير العربات يتواصل ويتواصل , بينما الأجداث إستمرت نائمة على يقظة همود أزلي وزمن يتجمد كالصلصال .
    وظلّت هيَ تنتظر .. وتنتظر .......


    (3)... تتفجّعُ


    سكون ٌ يريم . وصمتٌ ينشر غباره التحنيطي على جثومات رموس تتناسل ثم تبيد بفعل توالي رموس أّخر تزيحُ ما قبلهـا .
    الكلُّ نيام بعدما أيقنوا الخاتمة , إلاّ الفتاة ومنذ ُ أعوام ما فتِئت تنتظر ...... ودّعوها بعمر الخامسة عشرة , وقالوا : " سنأتيكِ " .. لم تسمع منهم موعد القدوم ولا فترة الغياب . وها هوَ الفراقُ يأخذ لهاث المسافات الأبديّة , والأيام باتت تتداخل .. لياليها تلتهم أنوار النهارات وتقضمها , حتى غدت تلك الأيام ليالٍ لا غير. تغمرها العتمة . وترفل على ثراها طيوف النوى . [ إكتشفت أنها لم تكن الوحيدة الجالسة على دكّة الإنتظار طويلاً / طويلا .. رأتهم يتهافتون وقوفاً عند مداخل المقبرة . يتطلّعون الى القادمين كما لو كانوا حمائمَ تبحث ُ عن ومضة إنطلاق .. تتّشحُ قسماتهم بحزنٍ كامدٍ , وألمٍ مرير ,, ولهفةٍ لمواعيد غدت كالحلم الكاذب .... وحين تلوحُ الأذرعُ رافعةً الصناديق الخشبية المستطيلة تفر العيون .. وبلا سؤال تعدو متفرسة / متوسلة . وإذ ْ لا ينتهي النظر بالمعرفة , والإهتداء , وإدراك المرام يتم الإنسحاب الخذيل تحت غمامات الأسى واليقين المتهالك !! ... يحارون !! .. وفي لّجـة المرارة ينطلق السؤال الباعث على الملل , يفوه به أحدهم للآخر :" هل زاركم المحبّون ؟ ".. فيأتي الردُّ أكثر تجهّـماً : " في الأيام الاولى , والأشهر المتتابعة من الفراق نعم . كانت الزيارات تترى , وعبارات الشوق تتهاطل متزاحمة كالغيث . أمّا الآن فـ..... ".تتكدّر سحنات الوجوه . وتشرع بيادر الخيبة تتعالى .. تكبر .. وتكبر .] .. لكنَّ أنسام أمل مُفتَعَل تمر من أمام عيني الفتاة تقطر رحيقاً مُظَلَلاً تترجمهُ مفردات تقول : " سيأتون .. لابدَّ أن يأتوا.[ وكانَ المحبّون في الدروبِ البعيدة / خارجَ الثرى يخطون تحتَ وطأةِ ثقل الهموم , وتراكمات الآلام .. يتعثرون فينكفِئون , وعلى عصا الصبر الناضب يتكئون ] .
    وذا ليلـة فُتحت المقبرة ...حزم مشاعل تتلاهث ناضبة , محمولة بأيادٍ ,وأيادٍ أُخرى تمارس رفع
    قادمٍ مُسجّى في بوتقةِ الرحيل الأبدي .
    لم يكن الآتون ممن يعرفهم المستقبلون . لذلك عاد النيام اليقظون الى نومتهم ما عدا الفتاة , فقد هجست أمراً زرقها بيقظةٍ جارفة . قضت تعدُّ الدقائقَ حركة المودّعين الذين ما أن إستداروا وخلّفوه حتى انطلقت نحوه صارخةً بمرارة الثكالى الطعينات :
    _" آ .. جميل , أخيراً جئت !! لماذا نسيتني ؟ "
    لم تتلقَّ جواباً لأنَّ الأصابعَ التي مرّت على الرأس كشفت شعراً أشيبَ , وجبهةً جامدةً , ووجنتين ضامرتين ,, ثمَ فماً مزموماً خلا من الأسنان ... وحين تفرّست بالقوام الذي حلمت كثيراً أن تتراصف معهُ وتعدو رافلة في جنائن الأحلام وجدتهُ محدودباً , متكلساً .. آنها انفجرت باكية , مرتعبة , هاتفة :
    _ آ.. جميل !! حتى وأنت في القبر تسحق قلبي وتمحقهُ ؟.. أبعد مسالك الفراق الطويلة , ولهاث الآفاق النائية تأتيني بالصمت والتهالك , والخواء ؟.. جميل !!



    2002.12.3






    (1) قصة



    رغاوي الصبـر



    زيد الشهيد




    أطبقت كفُّ الرمال على نقاء الواحة فلوِّثت وجنات الصفاء بصفير يشبه العواء ...
    اكتأب القابع في غرفته الحسيرة تحت بصيص مصباح تتشربه دكنة الجدران خلف منضدة خدَّشتها نقرات صفر أزالت رغبة التطلّع إليها بارتياح ؛ مثلما أثار امتعاضه صرير الكرسي الجالس .
    النافذة المطبقة لم تشفع لفضاء الغرفة بقاءاً بعيداً عن الهياج الضاج في الخارج إذْ تمرَّدت عليها الثقوب فأباحت لألسنة الريح افتضاض بكارة الفناء ، واقتحام حُجُب العينين وسواتر المنخرين بفضاضة هوجاء .. أنتج الكيان الممتلىء بالكآبة عِطاساً هو أقرب إلى احتجاج الكائن على هلوسة الطبيعة ؛؛ أو رفض الكاتب لواقع يعيش جزئياته ( لقد قطعت عليه اللحظة بوح ذاكرة , و أطبقت على شريط ذكرى . ) . ذاكرة كانت تتحفِّز لاستنارة يرى من خلالها مسار أيام هاربة وجلسات هي من عِداد الألفة والحميمية ؛ مع صحاب يدخل معهم سجال التحاور بالرؤى افعاماً لذائقة ترتج بعذوبات القراءات اعتماداً على مواهب تحترق ، وإبداع يُخلَق ( يومها كانت ظاهرة " التناص " تناقش وسط آراء تتفاوت _ يضمّهم مقهى أو تحتويهم أرصفة _ بعضهم يقول : هي بدعة ، ومساحيق مصطنعة جيءَ بها لتُحسِّن قُبح وجه سارقي ابداع غيرهم فيما المناهضون يُصرّون على أنَّ ما نكتبه ليس إلاّ نتاج نصوص من سَبقنا ،، وهي جدلية لا يمكن القفز من فوقها ، استناداً على مقولة : " ما الأسد إلاّ خراف مهضومة " ... وها هي الرمال تسخر من استعادة قول ، واحتدام مقاربة . ) .
    ظنَّ الأمر دقائقَ ستمر ، ثم تؤول إلى منتهى . لكنَّ الدقائق تمطَّت ؛ والعواء تقمَّص زمجرةً ،، لم يقتصر على فمٍ واحدٍ بل تجمعت حزمة أفواه لتبث القلق مدراراً .
    سمعَ مَن يصرخ خارج الغرفة : " إنّها عاصفة !! " فضجَّت في مسمعه الكلمة ، مستحيلةً فَزَعاً :
    عاصفة !! .... المفردة التي تفتح أمام كآبته شريطاً من اليأس ، والرعب ، والعصاب .
    عاصفة !! .... سماءات متكرّرة / أنين موجوع / تمزّق أحلام / تشظّي وجود .
    عاطفة !! .... نهار أخرق / ليل عار حيال جبال مجرّات الصقيع / جوع يُعلن تسيّده ، وشوارع صارت لافتات للضجر / أزقّة تحتمي بالهمود خشية العُري .
    _ ستتمزَّق خيمة الصبر _ تمتمَ _ ، ويتهشَّم عمود الثبات _ صرخ _ سيبدأ العراء من جديد وسيبحث عن منفىً قسري ...
    عاصفة .... وصحراء !! .. وجود أُحادي في غرفة دكناء .. هجوم متوال بنقرٍ يشبه الحفيف المتعالي تحيله النافذة إلى سقوط قذائف " هاون " فتذكّره بالحرب الأولى .. ثم يتفاقم انفجارات مهولة تعيده إلى الحرب الثانية فيدرك أنّه وسط حرب ثالثة مُعلَنة تُحقُّقها الذكرى وتنفذها الرياح ... لم يرَ كما كانَ يحصل له في ساعات الهناء جدرانَ الغرفة تتراجع لتنفتح على فضاء فسيح يدفع به إلى محفّات سرور مُنغَّم ، وأنسام ربيع راقص ؛ بل لمح _ الآن _ هذه الجدران تضيق وسط سيمفونية تُعزف على ايقاع طبول مجنونة تقوده إلى بعثرة ما بقي من رصيد عقلي يقارع به تقادمات الأيام الثقيلة ... صرخ : " لا ! " فتاه صوته في بريّة اللاسمع .. " لا ! " .. تصالبت العينان على السقف الهابط بتؤدة . تجلمد الجسد فهربت النبضات الرشيقة من الشرايين الحييّة ؛ داخلةً القلب الذي شرع يستجدي من الدماغ ايعازاً بهيئة فسحة تديم له لحظة من البقاء . . غير أنَّ الدماغ كانَ منشغلاً باستنباط صورة سريعة يبثّها في العينين المتصالبتين . صورة حشود أسى يتناسل رغاوي داجية فوق جمع بشرية منهمكة / منهكة تدفن أحلامها في يباب القتامة والتردّي ؛ والفعل اليائس ... ولكن ! لا يدري من أين أتته نبضة الأمل الشاردة فأمسكَ قلماً ليدوِّن حصيلة وعي أثبت تفكّك المعادلة ، وبأس إشراق ظنّهُ خيمة ستهفو إليها النفوس التوّاقة للظلال الرطيبة ... حين أتمَّ التدوين تشكَّلَ نصٌّ مستل من تناص ،، وقهقهة متعالية / متتالية ظلّت ألسنة الريح تلوكها بانتهاك صارخ في فضاء الشماتة ، والتشفّي ، والتقريع .





    (2) قصة




    غواية الموت



    زيد الشهيد


    في مدينتنا كان لحضور الموت وقعٌ مدوٍّ شبيه بالرنين الذي تحدثه طبول حروب القرون الوسطى إنذاراً بقدوم خطرٍ مٌداهِم .. ينتشر الرعب وترتجف الأوصال . تتردد البسملات طائرةً على الشفاه المرتعشة . نتمنّى أن لا يكون الزائر البغيض خطفَ واحداً من أهلنا . وحين نلمح آباءنا / امهاتنا / أخواتنا واخواننا يخطون على بلاطات السلامة تغمر فضاء نفوسنا سحابات الطمأنينة الرخيّة .
    اعتدنا الموت زائراً متقطِّعاً لمدينتنا ؛ وعرفنا من آخرين كم هي محظوظة هذه المدينة . وعرفتُ أنا ذلك من الردود الوفيرة التي تصل أبي شكراً على تعازيه لمعارف وأصدقاء يقطنون مدناً أخرى .
    وبفعل محدودية الراحلين كُرَِست لمراسيم دفن الموتى هيبة وخشوع يزداد الناس تكلّفاً في ابدائه . واذا كان الميّت قتيلاً فهذا ما لا يمكن للعين البقاء تراقب مشهد مرور التابوت ، بل تضاف لها مهمّة ذرف الدموع سيولاً ؛ تصاحبها جهشات مسموعة يتبارى المصاحبون باظهار حزنهم ولوعتهم . ناهيك عن النساء اللائي تحتويهنَّ الأرصفة لحظة المرور . لا ندري من أينَ تأتيهنَّ حماسة الصراخ والنحيب والولولة المتواصلة ؛ حتّى ليظنَّ الرائي / الزائر لمدينتنا أنهنَّ أمّهات القتيل [ ذلك اليوم دوّى خبر احضار أحد شباب مدينتنا قتيلاً في دولةٍ مجاورة .. شباب ويموت مقتولاً ؟!! .. خفّت حركة العربات / أُغلِقت المحلاّت / ضجَّت مآذن الجوامع بآيات يرتّلها المرتّلون .. حركة دائبة لأناس مذهولين . الحيرة تتماوج خلل النفوس .. أُشعِلَت الشموع / خُطَّت اللافتات سوداء عريضة / قُطِعَ الوفير من أغصان آس جزرات الشوارع . آنذاك باع " جيجان " كل ما عرضه من أعواد البخور ؛ ثم تحوَّل المشترون إلى " حسّون " فابتاعوا ما لديه . وكان لمشهد حمل الجثمان ووقع التشييع صورة لا تُنسى عبرت قوس النسيان إلى تخوم الذاكرة الدفينة . ] .
    بعد سنين كبرنا ، وكبر معنا ادراكنا للموت . لكنَّ المراسيم ظلّت تأخذ مسار الطابع القديم : المآذن / الشموع / البخور / أوراق الآس / النحيب المتقطِّع ... الفرق أنَّ التوابيت في شبابنا ازداد مرورُها ، وبتنا نبصر أعداداً غفيرة تحملها السيارات مسرعةً خاطفة صوب مدن متفرقة . هذه المرّة لم يستثنِ الموت مدينتنا التي لهول عدد التوابيت الداخلة إليها صارت واجهات البيوت عارضات تتزاحم عليها اللافتات السود الجديدة ، مزيحةً لافتات أُخر حالت حروفها وبهتت فسقطت اسماؤها وباتت عتيقة رغم حداثة تعليقها ، وبتنا نعتاد حضور الموت الذي تسببّ الجناة في استدعائه وجعله زائراً دائماً لمدننا الطهورة ، الحييّة ، البريئة





    (3) قصة


    تشــكيل



    زيد الشهيد


    دكنة ثقيلة يشوبها لونٌ قهوي بهيئة رتوش تقصَّدت الريشة إظهارها لتُقلل من وحشية العتمة ، أو لإعطاء إيحاء تأويلي لنثار دم قلب يعتصره ألم نازف .. ولم يكن الاطار الصغير ، المزخرف بموزائيكية مثيرة وهو يستند على سطح الطاولة المستديرة داخل فضاء اللوحة سوى قيداً يُحنِّط حياةً تملأ وجهاً ذكورياً لا يخلو من الوسامة ؛ يتطلَّع بعينين مُعاتبتين لمتطلِّعة تتكىء على حافة الطاولة بمرفقٍ ناتىء وساعد ٍ عارٍ وكتفٍ شحمي يتخلّى عنه القماش المُناط به مهمّة الستر .
    الوجه الانثوي يرنو جانبيّاً بتحديقٍ ترشح منهفيوض ندم ، ومقردات استعطاف .. أيضاً طلب مغفرة ؛ ثم سؤال يتهاطل من الشفتين ، يتجاسد :
    _ دعها تعود أيامنا التي سفحناها على صخرة التمادي .. دعني أكفِّر عن غرورٍ نفخني كبالونة فلم أعد يومها أُكرِّس لحظات الاستماع لرجاءاتِكَ المغموسة بتحذيرات مُحبٍّ صدوق .. آآ .. متى تمطر عليَّ سماحتك فتعود ؟
    يتناثر السكون ؛ والصمت يفتضُّه احتكاك فخذين انسحبَ عنهما الثوب اللحمي الشفّاف وتركهما يُبرزان شبقاً جنونياً ، يُعززّهما الكفَل الممتاى على مساحة مقعد كرسي لا يستوعبه .
    يُحدِّق وجه الصورة في تأثيثات اللوحة ، ولكن من الخارج .. يُحدِّق كبرفة نهائية لاكتمال العمل . يرى إلى الخصلة الطويلة الجعِدة التي يوماً ما كانت انشوطة للهفتهِ وحُمّى اشتياقه ... الخصلة تتبعثر على جانب الوجه الذي لم يظهر مكتملاً .( الصورة جامدة ، ووجه الرجل المغموس في التحنّط يعود لسنوات تهرب من ماسك الفرشاة الآن ، فقد عدا الزمن ؛ ورذاذ الألق نأى عن حقول النضارة ؛ أمّا الذاكرة فتعود إليها داخل أبعاد الفضاء ؛ وتعود إليه في خارجه .. تتذكّر .. تتذكّر ؛ ويتذكّر الجلسات الوحشية الجامحة : قبلات جنونية ، تماسّات لاهبة ، مع رحيل ناري نافر ، وهائج ، ومهووس .قالت له :
    _ هل سترسمني ؟ .. وكيف ؟
    قال بجواب القُبل :
    _ نعم ؛ ولِمَ لا ؟
    قالت مائعة ، متضافرة مع غنجها :
    _ لا أريدها متدثِّرة بالمزية حسب مدارسكم ورؤاكم الغريبة .. كلاسيكيّة أرومها كما الجيوكندا . باهرة كزهرة عبّاد الشمس ؛ أما الخلفيّة فمرجٌ مُقتطَع من دنيا الفراديس .
    يومها كانت تتلقّى رسائل الاعجاب نظرات ممِّن تمرق رافلةً أمام حسراتهم . وتزاحمها العيون تلتهم الشهد المغموس بتقاسيم قوامها المايس ... يُحّرها منهم ويتمنّى راجياً :
    _ إيّاكِ ؛ إيّاك ! .. إنْ لعقكِ لسان الغواية لن يترك لكِ طعم البقاء . ستستحيلين شمعاً خلا عنه الشهد ؛ متروكاً لأصابع الاهمال . ستومئين ثم تندهين ، ثم تصرخين ولكن لا أحد .. وعندما ستعودين إليَّ لن تجدينني . ستحصدين سنابل الندم ..إيّاكِ !
    تنسكب الحسرات ، والخدُّ الشاحب للوجه الانثوي الجانبي احتضنَ دمعةً متدحرجة (كنهايةٍ لانسياب دمع ) عمَّقَ تكورها اللامع طلاء " الوارنيش" مترافقاً والتماعة السائل الدمعي الذي سال فشكَّلَ رقعةً دمعية مائية على سطح المنضدة ؛ تماماً بجوار قارورة فرغت للتو، وكفٍّ على وشك التقاط قدحٍ حوى سائل ذهبي ... وكان الفنان صاحب الوجه المُحنَّط بالاطار يطالع بالشوق المطعون والألم المُفصَّد راحة الانجـاز .



    (4) قصة



    رومانس



    زيد الشهيد


    دنت على وقع همسه واستجارت بفيئهِ البَرود ، يرافقها الحنين يملأ رغبتها في العناق ... أثلجها أنّه ضمّها إلى لهفته ؛ وأبهجها نغم حروف تخلقها بواعث مبادلته للمودّة .
    لم تقل له جئتكَ من أقاصي الوجد لألثمَ فيكَ رضاك ؛ بل تركت لأنامله سبرَ دفائنِ شوقها .. قرَّبَ شفتيه من جبهتها الصافية ، وهمَّ بالتهام أنفاسها ... تقاطر رذاذ روحها يعرض أبجديات الحياد فعاجلها بالثَّمَل .. اكتشفته يغذُّ الروح وصولاً لنواصي الأعماق .
    قال : آه ! " أنتِ تقتلينني " . فتذكّرت أولَ حبيبٍ رشقها برسالةٍ فيها من البكاء ما يكفي لتدوين نصٍّ يحمل أسوارَ الاكتمال المُطعّم بالغدر ... أرادت سحبَ شفتيها من الانغماس العذب لتحكي له الومضة التي انبثقت فجأةً ،، فعاجلها : " لا تكلمينني عن ماضٍ غدا نثاراً .. كما أنني لستُ كالآخرين .. " .
    دُهشت : " كيفَ فهمتني ؟! "
    فاستجاب :
    _ عيناك كلَّمتاني ،، وقلبي أوحى لي بالترجمة .
    رحلت بعيداً ...
    رحلت إلى حيث الافتقاد الثقيل لأبٍ هجر الأم وتلاشى ؛ وأمٍّ تعزّت بزوجٍ ثانٍ أغدق عليها صفيف الأبناء ، فظلّت ( هي ) كما الزورق في خضمٍّ مجهول ... كلٌّ يكلّمها عن بُعد ؛ كأنَّ جدراناً شُيّدت لتمنع عنها الحضن الحاني ، والهزهزة الشفيفة ،، كذا الأنفاس النورّانيّة ...
    ويوم تواربت أمامها أبواب الشباب موقنة بطريقة التتبّع المرآتي أنَّ جسدها يتغيّر ، ودواخلها تأخذ شكلَ التخلّي السحري نفضت غبار الضمور ، هاتفة بالخمود الابتعاد عنها بينما توالدت لديها استنتاجات بهيئة إعجاب فائر في عيونٍ تتبارى لاغتراف طلعتها وهي تضرب إسفلت الشارع بأقدام المَيس ... اكتشفت أنَّ التجاهل غير المحسوب والإهمال المُفتَرَض من قبل الوالدين ينبغي لهما التعويض ؛ وأنَّ فراغ الحجرات الطفولية آنَ له الامتلاء ..[ لقد سألت نفسها مراراً أنَّ الحياة حبتها بملامح لا تمتلكها الأخريات فلماذا لا تمارس صيدَ الإعجاب ؟؟ ] ..
    أرادت أنْ تهبَ له جميع سهوبها ؛ وتفتح له مغاليق الجنائن بعدما استشفَّت فيه بواعث التحرر ... لمساته تُدوِّن رواية الانوجاد ومن فمه تحصد سيمفونية الغرق الجميل . كادت تسلّمهُ _ هذه المرّة ارتضاءاً _جملة المفاتيح ،،، لولا الأصوات الزاعقة هجمت عليها بغتةً من ما وراء تلال الضمير ناهيّةً . فانصعقت بالجفول والتصلّب ، وانكفأت بالبَهَتِ والتهجّس وسط ذهوله المنشطر وحشد أسئلته الصامتة .
    صرخت في بريّة التكبُّل : " لا .. لا .. دعني أذهب ! " ..
    لم يباغتها بردٍّ بعدما بددَّ الذهول ... ولم يُظهر لها نأمةَ استنكار أو تطفّل إذْ حدسَ قلبهُ تراكمات الصور الخبيئة ،، وفسَّرَ بعقلية المتفهِّم التجارب المُخيّبة التي تهالكت بمطبّاتها مُنتجةً العثرات .. وحتّى كفّها المستحيلة قطعة ثلجٍ بين كفّيه رأى فيها علامة ارتعاش .
    تركها تنسحب خارجةً / مُبعثَرة ، دارياً أنَّ يوم غدٍ سيشهد انهزامئتها ؛ وسيجد الباب يُطرَق ووجهها يطلُّ مُتّشِحاً بنظرتين كسيرتين ، وشفتين متقشّرتين يطبعهما الاختلاج ، والنزق .



    (5) قصة


    تَمـــادي



    زيد الشهيد

    ما كان حلماً ذلك الذي تجلّى ، ما كان رؤيا ؛ لأنَّ الذي مرَّ صارَ من عداد أسئلة تهافتت باحثة عن ردودٍ تشعل صقيع التبلّد ، وترمي على تلال الماء مراسيم التفتت . هذا إذا أقرّت ( لكم ، ولم تُقر لي ) هي رغبة التواصل وخرجت من فيافي الصمت المميت ؛ حيث الأنامل الشمعية تطبع تاريخها لهباً من انسحاق وتمادي يغذّي الروح بالتآكل عندما قالت لها النصائح قفي أيتها الفراشة اللاهثة خلف بيارق الاشتعال .. تمهّلي بلهفتكِ يا راكضة باتجاه شغف القتل اللذيذ .. يا شهد الطلع / أيتها الرهيفة المتلفّعة عباءة المساحيق الشفاهية .. رويدك يا خارجة من مضارب المازوش....
    ما أبِهَتْ ..!!
    لن تأبه ...!!
    ولم تعرف لنداءات التحذير ترجمةً ..!!!
    انطلقت غارقة /عائمةً . وظلّت متوارية / هائمة ... تنده بالنور المتذبذب قدّامها أن يمارس التعثّر كي تلحق به وتنسفح على دكته ؛ وكان هو لا يُعر همّاً لرجاءاتها السحيقة ، لأنَّ الفراشات ، الفراشات كثرٌ ؛ والمُحترقات ، المُحترقات متهافتات تترى ... يواصل السير حثيثاً ، ممتشقاً سيف الكبرياء السادي ، رافلاً على أديم الجراح الفاغرة لطعينات توسدنَ روابي الخديعة والتحفنَ الذكريات الرمادية ، ساعيات بعيون الندم لتلقّي نداءات الإنقاذ ؛ ولكن لا صوت للبحّة / لا مسامع للتشفّي ... وكانت هي تزرق ساقيها برغبة الجري الهوائي ، ناشرةً / واهبةً جناحيها لتطويق عنقه النوراني النيّر ، وحيازة عطر الغواية حصيلة اللهب ، لا رماد الاحتراق ... آن مددتُ لها أصابعي ترسم برزخاً / تمنع انتحاراً . فما الذي حصل ؟
    قُضمت الأصابع ؛ وتفاقم عنادها . ازدادت الهمهمة وتكرّست جحافل التحدّيات . يومها توقَّف اللهب أراهُ / أراها من بعيد . استدار فارداً ذراعيه لأجنحتها الرحيقية وأنفاسها اللاهثة ، وعينيها الممتلئتين شوقاً وانبهاراً بوهجهِ الساطع الذي سرعان ما بثَّ سحرَه الحارق ، مُطلقاً صوتاً كالشواء / مستأنساً لارتطام رخيم عند قدميه الباردتين .. هل اتّعضَت ؟! ....




    26/ 11/2003



    (6) قصة



    سرياليزم




    زيد الشهيد


    والرجلُ ما صرَّح عمّا خبأهُ . كذلك الصندوق استمرَّ مغلقاً ما بين الفودين أو خلف العينين ؛ لكنْ ذات مقهى صاخبه تستحمُّ بالمساء ارتدت الوجوه حواجبَ وأفواه ، وحتّى وجنات ليست لها / أحاطت به . ضحكات تتقدّمها أسنان ، ونفير عربات تلاحق الطريق خلف الواجهة المزججّة أو بين مسارب الاحلام الفائضة عن الرغبة .. زرعوا الأفواه اذاعات لها برامج رمادية النبرات ؛ تراتبية . العدد السادس يبدأ من هنا . لا فرق عن السابع الذي يليه أو الخامس الذي يسبقه .. محطّات ضحك .
    على هدي العثرات التي لا تعرف الدروب اقتربت طفلة لعمر الأشبار الخمسة ارتفاعاً . قالت : أبي ! وكانت تشير إلى الرجل الذي ما صرَّحَ عمّا خبأهُ . مدَّت كفّاً صغيرةً باتجاه غيمة لها لون الهواء ؛ طافت أعلى الوجنات داخل المقهى أو ربّما خارجها ، وحلَّت شريطاً ورديّاً يعقص خصلة شعرها الشمسي . هفهفت به ... غير أنها لم تقل أبي هذه المرّة ، لأنَّ الوجوه أكملت خلع الحواجب والأفواه وحتّى الوجنات ، ولم يكن الأب هناك !! .. هناك كانت المقهى صاخبة والإذاعات أفواه تضجُّ بالرماد .




    (7) قصص





    زيد الشهيد


    هكذا وبرؤية رصاصية داكنة تتلظّى على قارعة الكمد لمح جدران غرفته تلفظ طلاءها وما تحته من طلاءات قديمة سائحة سيولاً متعرجة أو سائبة باستقامة ؛ وربّما سمع هديراً أو دفقاً لهذا السيح / الانجراف نزولاً . لم تحتمل هيَ نفورَهُ وهالها ابصاره يتقوقع ضموراً وينسحب انكماشاً رغم صفاء الطريق ويناعة شجر الحديقة التي برحاها توّاً لأنّه طلبَ العودة كي يشحذ نصال التقهقر بين جدران غرفته الأثيرة . وحيث أدخلته وأغلقت خلفه الباب طالبته كما المراّت السابقات : عدني أن لا تعيد نغمة الحزن في ترانيم أفكارك .. وهي تدري أنَّ الوعدَ الحق لديه لا يعدو أمتاراَ من اللحظات الآيلات إلى التبدد .. ينجني !! ممارسة مهمة التطلّع من حافة السرير تجسِّد فضيحة ارتفاع عمق الطلاء .
    يصيح بها : سيغرقني السرير . الطوفان يعلو!! .. يصيح .. يصيح فيفاجأ بصوته تواشيح تترى ؛ وفاتحات لأناس تبعثروا أشلاءَ وما دوِّنت أسماؤهم في قراطيس الوفيات لأنّهم للا أسماء ولا ملامح ، فقط آهات ترتفع وتعلو ، كالعادة يبصرها تتكدّس على البدلة الخاكيّة لصورة الشاب المعلقة أسفل السقف المُعتد بانتصابه ، ماحيةً بريق نجيمات يراها اللحظة تمزّق نسيج الكتفين ثم تؤول سقوطاً في زبَد الطلاء الذي يتعالى ويحسّه بعد اللحظات المتهافتة ليغرقه مع تهالكات الأثاث الجاثم كشواهد صامته .



    ( 8 ) قصص قصيرة جداً





    لقاء الوعـد



    زيد الشهيد




    ( 1 ) ارجوزة الزغاريد


    ما كان ليلُها الطويل أنيسا ؛ لا ولا نظرت إليه وعاءً للتحاور . فقط وجدت فيه انتظاراً لمن سيأتي لأنّه وعدها بمجيئه لا محال ، متلفعاً أردية الظلام كسواتر للتخفِّي .. يدخل عليها كقطٍّ بلوامس هلامية وأنفاس حبيسة ، وعينين مختلستين . تغلق الباب بمفتاح الخشية وتستدير . ترتمي عليه : تحتضنه / تشمّه / تغرز أصابعها بين مفارق شعره ، وتنتحب : آآ يا والدي ؛ كلّما خرجت وودّعتني حسبته آخر يومٍ للقاء . ( كانت تعيش الأيام على مائدة الهواجس ، متطيّرةً لطرقات الباب المتلاحقة ؛ سمعتها تتعاقب عبر سنواتٍ طويلةٍ ثقيلة ؛ مُرتعبةً لصوتِ مُحرّك سيارة كلّما هدر عن قرب .. تظنّهم جاءوا كالعادة : عيون ذئبية غادرة / ألسنة بذيئة داعرة . ينطقون بمفردات الطعن الغادر ، ويخطون بأقدام الفتك السادي ... تدري أنهم جاءوا من أوجار الضباع النتنة ، وولدوا من أرحامٍ كخضراء الدمن تضجُّ بالقديد والعفن . لا تعتب على من أتى بهم وأولاهم نواصي لم يفتحوا عيناً يوماً على تخومها ؛ لكنّها تتأسى على زمنٍ سيُحسب حقبةً وتاريخاً يُدوَّن لها ولأقرانها والأولاد . تردُّ على أسئلتهم الراعفة سُمّاً إجابات من باب عدم المعرفة .. يستفهمونها عنه : متى أبصرته آخر مرّةٍ ؛ وأي مكانٍ يُحتمل التواجد فيه . ) ..
    في كلَِ لقاءٍ تجيءُ به كفُّ الأسرار تجده يزداد يفاعةً ؛ ويتفاقم اصراراً . يعدها بقربِ حضور الشمس ؛ ويعرض عليها صور هلع الجناة القادم :
    _" أيامهم يا أمّي تنحسر ؛ والطوق يضيق على أعناقهم . الدوائر تدور فاختزني زغاريدك لتطلقينها في حضور النور الساطع احتفاءً معهُ وبه . " .. تتقاطر دموعها على خدِّه لحظة تطبع قبلاتها الحنون على جبهته :
    _أشكُّ في ذلك ! .. تهمس .
    _ اعتبري كلامي رصيداً لسرورك الآتي .. علّقونا من أرجلنا كالخراف ، سنعلِّقهم من آذانهم كالقِردة .
    وغاب .. وطالت بغيابه الأيام . بيدّ أنّه كان يبعث إليها : " أنا في حمّى الاشتغال ، ياأمّي . سألقاكِ يوم الوفاء . "
    الأيام تحمل أخبار اقتراب الشمس ؛ ومعها تحمل رائحة انحسار عطن الأوجار .. سمعت أنَّ الرعب انتقل لصدور الضباع ؛ والهلع يتفشّى راجزاً على قسمات وجوههم الغبارية . كثيرٌ منهم طفقوا يتسللون كفئرانٌ يرتدون أوشحة الجُبن وينسلون كخيط الظلام .أما القلَّة فيتظاهرون بعنف الزمن الذي يظنونه ما زال بأيديهم ، مُظهرينَ سيوفاً مثلومة تقطر دماءَ وردية ما زالت عالقة ، غير أنّ سيقانهم تفضح خيبتهم ورعبهم بفعلِ الارتعاشٍ يوشك على تعثّرهم ، أمّا شفاه المطعونين بخبثهم فتبثُّ كلمات الهزء مُشعَّةً باتجاه عيونهم المركّبة ما دفعتهم بإحدى نهارات قدوم الشمس إلى التواري فلم ير أحدٌ خطاهم المعفرة بالعار تلطخ ثرى الطرقات . ولم يتحسسّ أحد انفاسهم الفاغمة لأنَّ النور الزاحف من شتى الأصقاع ، والأريج العذب الهاتف في كل الأنحاء أعلنَ قدوم صّناع الأمل أرتالاً ، أفواجاً ..
    الحناجر في الدروب والطرقات تفجّرت موقِظة قلبَ الأم في فناء بيتها الذي لم تصله هكذا احتفاليةً أبداً ، فاندفعت صوب الزغاريد تزغرد ، دون أن تسأل ، فقد حدست تلك اللحظة ايفاء الوعد وترجمت صدق القول . تداخلت مع الجموع المهللّة المنشدة بأصوات هادرة رخيمة . زغردت بكل ما في حنجرتها من قوّة وخزين صوت ؛ وانهالت تنثر أشعاراً لا تفقه كيف توالدت .. هكذا بلا وجل ولا استدراك ؛؛ واستمرت تزغرد وتنثر .. تزغرد وتنثر حتى وهي تبصر تابوتاً ترفعه الأيادي المشدودة باتّحادٍ يتجه صوبها .



    20 / 7 / 2003






    ( 9 ) قصص قصيرة جداً




    زيد الشهيد









    ( 1) تعالـق


    يوم أمطرت السماءُ شذا النرجس كان هو متخِّدراً ، يعدو في كل اتجاه ؛ وكانت هي على جناحِ فراشة تطير ( غريباً بدا ذلك النهار ؛ وغريبةً تلك اللحظات المضمّخة بالدهشة والذهول ، تزحف ببطءِ سلحفاة .. بطءٌ ما عهداه ، ولم يوعَدا به . ذابت عند أقدامهما وتلاشت صغيرةً أمانٍ كانت عصيّةً عليهما في عالمهما البعيد الذي خلَّفاه وراءهما . تلك الأماني كانت لهما مثل أقمارٍ وكواكبَ يتعقّبانها علّهما يضفران بامساك واحدة . صار كلُّ شيء بأيديهما ؛ وصار كلُّ ما لم ينلاه هناك يسيراً هنا ) .. قالت له كالحالمة وعيناها السوداوان نصفا مغمضتين : " دعنا نذهب هناك ! " وأومأت إلى فيضِ ألوان طيفية متجانسة . فأجابها ؛ بل هتف صوتٌ من أعماقه : هيّا .. هيّا . فتهيأها ؛ فانطلقا ؛ فانتشيا في العدوِ .( اخترقا ذلك الجدار الشفيف ؛ وخرجا فأدركا مدناً ورياضاً وشطآن . دخلاها كالفاتحين أو كالمتلقّين دعوةً للذوبان . تجولا في شوارعَ حفّتها منابت الورود وظللَّتها وارفات الشجر . دلفا بيوتاً أشرعت أبوابها حالما تحسسَّت انفاسهما . جعلا يتفرجان ، يترجمان معالمَ أسبغت غرابتها دهشةً في دواخلهما اللهيفة . في مسامعهما عجَّت أصوات رخيمة متماوجة كأنها قادمة عبر تدفّقات مائية من جدران ناضحة ؛ ثم راحا يخرجان من بيتٍ لبيت ، ومن أرضٍ لأخرى ) حتى إذا أدركا مدّاً مائيّاً يتَّخذ شكل قلب نزلا إليه يستجمّان بطراوته ويذكيان في دواخلهما عالماً من الجذل والانتشاء . يغطسان ويعومان .. يغطسان ويعومان . وإذْ شعرا أنهما اغترفا الكثير الوفير من مناهل الحبور استلقيا على ظهريهما يتابعان زرقة السماء وتشظّي سهام الشمس الدافئة ، ويحاوران صدى روحيهما الطافيين على زرقة سماء باهرة دون أن يعلما سخونةً مفاجئة طفقت تعلو إليهما من جوفِ الماء .. تعلو وتشتد ؛ تشتد .. تشتد حتى تركت الأعماق تغلي ، ومياه السطح تتبخر فيكتوي الجسدان .. صرخت هي .. صرخت . رآها ترتفع مع البخار وتتفكك ثم تتلاشى . هتف بها ! هتف .. هتف ... وإذْ فتح عينيه أبصرها جالسة على حافة السرير ترنو إليه بعينين دامعتين ، وشفتين متيبستين . ومن فوق حبال الألم المشدودة إلى خاصرته سمعها تهمس له : آ.. يا حياتي ! لقد كنتَ تنعُم بنومٍ هادىء طوال الليل فما بالك الآن ؟! .. لم تسمع له ردّاً سوى أنها جوبِهت بفتاةٍ ترتدي البياض تقترب من السرير وبيدها حقنةً ، قائلة أنَّ مفعولها سيريحه لبعض الوقت .



    (2) بيت مقفل


    هوى رقّاصُها بكلِّ نزقه ولا مبالاته فدوّى رنينُه في فضاء الغرفة وتناثرَ في الفناء المحيط ؛ إذّاك أدركت هي تأخرها عليه . نهضت ؛ تهندمت وتعطّرت ؛ وألقت نظرةً على المرآة كأنَّها تسعى لتمزيقِ حجاب التردد .. فوارقُ السنين ، وبرازخُ العواطف تتلاشى إذْ تسرحٌ خيولُ الخيال وتنطلق صوبَ ضيعتَه المُشمسة .
    في مخدعهِ تجد دفءً وحنيناً وأنفاسَ تأخذها إلى شطآن كانت عسيرةً عليها الاقتراب من حدودها . ( آ .. على مروج الحنان وأفياء مُلاحقة عيون الوالدين كانت تبصرهم يعدون ويمرحون . كركراتُهم تطيرُ مع الأنسام ، وكركراتهم تختنقُ لائذةً في زوايا صدرِها فتموتُ في قلبها الصغير . أقدامُهم باندفاع ترتفعُ عن الأرض بينما قدماها تصطكّان ، تتصمّغان كأنَّ شيئاً ما يشدّهما إلى الأرض . لا أحد ينادي عليها ، يحذرها . تجفل .آ.. _ تتحسَّر _ يا أبواي لو كنتما معي ! ) . ستجدهُ يتلوّى ، يحرقُ سنواتَه الأربعين فوقَ جسر الانتظار ؛ تمتلىءُ منفضةُ سجائرهِ بالأعقاب المحترقة وأنصافِ السجائرِ المدعوكة . ستجد فراشَه المبعثَّر وملابسَه المتناثرة باهمال . سيصرخ بها غضِباً لتأخرها ؛ لكنَّها ستُطفىء هياجَه ببرودها . ( منذُ صِغَرها تعوَّدت أن تثلج قلبَها واضعةً أعصابَها في صقيعِ الصبر والتجلّد . مُذ كانت تحملُ حقائبَهم خلفَهم وترعى صغارَهم . مُذ افتقدت نومَ الفجر الجميل كي تجلب لهم الخبزَ الساخنَ وصحونَ " القيمر " الطازج وتعدّ لهم طعامَ الفطور على المناضد المُهيأة باتقان ) .. قالت لسيدتها المنشغلة بمتابعةِ برامج التلفاز أنَّها ستزور أقرباءَ لها وقد تتأخر قليلاً .
    استقبلها الشارعُ العريض ؛ وعلى رصيفه جعلت خطاها تتسارع وصولاً إلى الباص الذي أقلّها إليه .
    عند الباب الرئيس ، وكعادتها مدّت كفّاً عبر مشبَّك الحديد . سحبت المزلاج _ في رأسها أعدَّت مراسيم الاعتذار _ وصارت على وشك الدخول عندما جاءها صوتُ رجلٍ عجوز يسكن الجوار :
    _ لا أحد هنا ، يا ابنتي . الاستاذ سافر إلى العاصمة .
    _ متى ؟! ... هتفت بذهول .
    _ هذا الصباح .
    صُعِقَت . لا تعرف كيف تنطُق فتسأله السبب ؛ لكنَّ الرجل أدركَ حيرتها :
    _ سمعنا أنّه قرر الزواج ، وذهب ليبدأ مراسيمَ خطوبته هناك ، وأنّه ....
    _ كفى ! .. كفى ! ... صرخت به ؛ وفي سرِّها رددَّت : آه ، لقد قتلتني .
    أحنى الرجلُ رأسَه خشيةَ التقاء عينيه المتأسيتين المتابعتين لمجيئها المتكرر من قبل بنظراتها الذهيلة التي رحلت سريعاً تبحثُ عمَّن ينقذها من هولِ صدمةٍ لا قدرة لها على امتصاصِها . شعرت أنها وحيدةً منقذفة . احتواها فضاءٌ أخذت فيه الشمس تتخلّى عن مملكتها تاركةً عتمةَ الغسقِ تشيعُ دون مراعاة للقلب المُحاصَر الذي تفجَّر ، وللعينين اللتين طفحتا بدمعٍ دافقٍ غزير .



    ( 3 ) بورتريت


    فجأةً وجدت نفسَها قد أضحت فتاةً لها الحق في أنْ تزهو وتحلُم وتطمح وتنطلق كاللواتي سبقنها ؛ فكانّ عليها أنْ تخلِّف وراءها صحائفَ كثيرةً من العبث والنزق والدلال المصطنع . باتت تُكثِر الوقوف أمام المرآة ، تتملّى شعراً قهوياً يتماوج على الكتفين ، ووجهاً اتسعت فيه العينان وارتوت الوجنتان ، تبزغَّ على بشرتها حبيباتٌ حُمر فيما الشفتان بضَّتان امتلأتا وتبرعمتا حتّى ظنَّتهما _ ولأكثر من مرّة _ أنهما متورمتان .. وجدت المرآة تمنحها الحفاوةَ والإبهار ؛ تبوحُ بالذي لا يُباح . خطت متَّخدِرةً نحو نافذةِ غرفتها فأسدلت ستائرَها واستدارت تغلق الباب . ومعها ارتفعت الكفُّ لتضغط بأناملها الشمعية أزرارَ المصابيح تطفئها ، إلاّ واحداً تركته يشهد لحظات البوح والتحرر والاحتراق ... وأمام الجدار السحري رأت قرينتَها تخلع قطعَ الملابس وتنثرها بكلِّ عبثٍ ونفور ؛ فاستقبل السريرُ قطعةً ، والأريكةُ قطعةً ، وبساطُ الأرض قطعةً ، والكرسيُّ المحاذي للباب قطعةً ؛ وقطعةً أخرى ضربت بها الستارةَ فأحدثت صوتاً مكتوماً _ هو صوتُ انزلاقِ عتلة شدِّ الستارة التي زحفت قليلاً فلم تأبه لها _ طالعت مفاتنَ القوام الماثل ، وتحرَّت بجذلٍ خارطةً غريبةً لها وسائلٌ إيضاحٍ مُبهرة .. أبصرت سهولاً وجبالاً ومروجاً وأنهاراً وشلاّلات من عسل .. آآآ ؛ جعلت تكررها بهمسٍ : أحقّاً أنَّ لي كل هذا ؟!..
    عبقَ فضاءُ الغرفة بشذا عجبت كيفَ استباحها فأغرقها . عامت في بحرهِ لوهلةٍ ، وارتعشت لوهلةٍ .. ولوهلةٍ أُخرى لم تعِ ما فعلت ؛؛ غير أنَّ الجدار السحري كشف سرَّ اللحظاتِ المتهافتة فقد احتوى لوحةً لفتاة عارية يضمّها سريرٌ وثير ...




    ( 4 ) غمامات الغسق


    على أوراق الذكرى التي تبعثرها رياحُ الأعوام كانت تنحت أمانيها ، متطلّعةً صوبَ أفق بعيد يجيشُ بأحلامٍ انثوية تعومُ في رومانس الفراديس العليا ( هي أحلامٌ التسامي والتطلّعات المترفّعة / النفانيف المشجَّرة المزهرة / المساحيق الفاقعة / عبارات التبجّح والتباهي والازدهاء . والفارسُ القادم يجب أنْ يكون كذا وكيت وإلاّ فلا فالخيال جامح والفناء فسيح ، وهُم كثرٌ كثرُ . يتطلَّعون فيعجبون . يُسمعونها عذبَ الكلام وجميلَ الإطراء . ولكنْ لا أحد ممَّن رسمتهم في الخيال يخطو إلى أمام .
    الأيامُ تعدو ، والمدى النائي رويداً ، رويداً يقضمُ قرصَ الشمس .. آ .. أينكم يا متهالكو الأمس ؟! ) . وتلفَّتت كما لو أنَّ نداءً خفيّاً مُثيراً قضت الفصولَ بانتظارِه .. أتُراه جاء لينتشلها من براثنِ اليأسِ والفراغ ؟ .. سترتوي إذاً أرضُها البور ؛ ستينع وتثمر . تعيش التألقَ من جديد ... أفردت ذراعيها وهتفت بكثافةِ الأسى المحتشد في قلبها : هلمَّ أيها القادم الموشّى بالندى وأريجِ الصباح . أجرني ، لقد بتٌّ أشهد بأمَّ ناظري ذبولَ الوريقات وانهصارَ المياسم . أتدرك أيها البعيد ماذا يعني انهصار المياسم ؟ . وتلفَّتت تدورُ .. تدور داخل غرفتها . رأتها تنحسر وتضيق فاندفعت خارجةً لتشهد النخلةَ التي تألَّقت معها وتسامقت قد ذوت الآن وشاخت . تمرُها يتهاوى لأيّما هبّةَ ريح خفيفة فيتساقطُ أرضاً ، مستحيلاً طُعماً للدود المُنتظِر المُنتشر بإفراط ( تراجعت تتابع الوجوهَ الهاربة في ذاكرتها صوبَ مَجّرات النسيان وجهاً بعد وجه حتى أسفرَ بحثُها واستقرَّ على ذلك الذي قضى أياماً طوالاً يتهالك لكسبِ رضاها وسماعِ قبولِها فلم يجد منها آنذاك غير الفتور والبرود وحصاد الخيبة والجفاء .) مَن ؟ وتلفَّتت ! ثمّةَ طَرَقات واهنة على الباب الخارجي أثارت دهشتَها وفضولَها . حبست أنفاسَها لحظةً وهي ترفعُ الرتاج . سقطت نظراتُها على قوامٍ شاحبٍ ووجهٍ رشقت نظراته ذاكرتها المشوَّشة ، فهتفت مستجيرةً : آ .. ها أنتَ تعود الآن ! كيف تذكرتني ؟ .. رمقَها بعينين متَّقدتين واستدارَ غاضباً ، تاركاً إيّاها تتصلّب كما صخرة .. بعدها هبّت خلفه صارخةً تتشفَّع علَّه يتوقَّف فيغفر لها ويمررّ كفّاً تخفي ذؤابات رمادية اكتشفتها تتوالى بازديادٍ مستبيحةً شعرِها كلّما حدَّقت في عمق المرآة وتطلَّعت في وجوه فتيات يتخطّينها في الزقاق .


    (5) بوح


    بوميضِ النيزكِ الملتهب ..
    باحتراقِ شمعةِ العمرِ أنضو عن نفسي غبارَ التردد وآتيك _ أيها العزيز _ . عندما تنطبقُ ألأجفان تضمُّكَ صورةُ وتحتضنُكَ حلماً . تطلقُ لسدولِها العِنان رافضةً محتَّجة على أيّما طارقٍ لأبوابها كي توارب ، لئلاّ تتسللَّ دونَ درايةٍ منك أو تختطفُكَ لوامسُ الهواءِ الذي يمسّ قوامّك السادرَ في المكوث عند تخومِ عيني .
    عندما سأعلن اعتقالَك الاختياري سأبوح بسرٍّ يقول : مُعتَقَلٌ يستعذبُ سجنَه . سأعلن تفاصيلَ بهجتك التي تتفوَّق على بهجتي . هل شاهدتم عزيزاً يلغي وجودَه في حضرةِ الواقع ليمسك مكامنَ الحلم ؟ ( يوم سلَّمتني ذلكَ الغصن الأخضر الدقيق المتوَّج بزهرةٍ ارتوت وريقاتُها البنفسجية وفاحَ جوفُها بالأريج المُخدَّر قلتُ في نفسي : شاعرٌ عبِثٌ يبحث عن انطباعٍ عاجلٍ ؛ فعاجلتُكَ بابتسامةِ رضا وكلمةِ شكر ، فاذا هي البداية ) .
    أيها العزيز : لقد انتشلتني من منابعِ اليأس بعدما تهدَّمَت أمامي وقوِّضَت ثلاثون سنةً ، بل واثنان فوقها ، كانت الأيامُ فيها تلهثُ مسعورةً ، والأشهر مرايا تستفزّني بسخريةٍ موجِعة . وكنتُ على وشك الارتماء في هوَّة الجنون الغائرة في العدم . أترنّح فاقدة الوزن والتوازن ؛ لولا أن امتدَّت يدُك تنتشلني .آه ! لا يعرف السعادة إلاّ المبتهجون المتفائلون . كثيراً ما أحسست أنّي أرسمُها . زيّنتها ، مُلقية عليها ألواني الطيفية المائية ، الدافئة منها والساخنة ؛ وقلت أنّي أسبحُ في فيضها . أطفو على ابتهاجٍ رغوي لذيذ . لكنّي اكتشفت ذلك الإحساس افتعالاً .؛ وشتّان ما بين الصادق الأمين والمُفتَعل الكاذب . لعلّه اللقاء مفتاح اللغزِ المُبهم العصي . ذلك ما كنتُ أفتقد ؛ وذلك ما رميتَ به إليَّ لأفكَّ مغاليق الجنان ، ولأستعيذ بكَ من شرورِ الآمال الزائفة . زيفٌ جلّهُ الخيال . بريئةٌ هي البراءة . إنّي أجمعُ ثمارَها الساقطة من دروبِ المتجنّين اللامبالين لأجني سرَّ الرِّضا ... إننَّي أنتظركَ عند تخوم البدر .. هيّا فالقمرُ يقترب ، ورحيلُ الشفقِ يفجِّر إعلانَ بدءِ اللقاء .. إنّها ليلةُ السحر ، فهلمَّ .. هلمَّ أيها العزيز .



    (6) مسافات الغيب


    رحيل ..
    رحيل ..
    على خُطى الرحيل لحظَتهم يتساقطون : أوراقٌ ذابلة / شموسٌ منطفئة وليس لها قدرة على فعلِ شيء . الفصولُ تتجاوزها لاهثةً كأنَّها تستبقُ وصولَها نهاية أُجبِرَت على إدراكِها . الأبُ يذوي أمامَ عينيها ، وتلحقُه الأم . وتسمعُ من بعيد عن أعمامٍ لفظوا أنفاسهم الأخيرة غرباء وهم يأملونَ أحداً من قريبٍ أو بعيد يُيَمِّم رؤوسهَم شطرَ القبلةِ ليناموا نومتَهم الأبدية قريري العيون ؛ وأخوالٍ لهثوا مع الحياة ظنّاً منهم ستدوم ، فرمتهم بكلِّ غرورِها وصلفِها على قارعةِ الهباء بائدين خائبين ؛ وأخوات سبقنها العمر تتجعَّد وجوهُهن ويكلُّ بصرُهُن ، وتضمرُ أعضاءَ لهنَّ . أخوات كانت تبصرهنَّ يرفلنَ مزهوّات . أما الآن فالآهاتُ تترى تختزنُها صدورهنَّ ؛ كانت وإيّاهنَّ يملأنَ البيتَ مرحاً . صغيرات يرقصنَ مثلَ فراشاتٍ وجدنَ الحياة جنّةً ودنّيا حبور . وكانت لهنَّ أمٌّ تحنو عليهنَّ ، وأبٌ يرى فيهنَّ القلوب التي ستحتضنه عندما ترمي به أعوامُ الكِبر ) . وترى إلى نفسها تكتشفُ صفات كثيرةً وفيرةً صارت تختفي لتحلَّ مكانَها صفاتٌ أُخر . ذهب النقاءُ الذي يُعطِّر روضَ وجهها ، وجفَّ شعرَ الرأس ثم تعقَّص . الرقبةُ تغضَّنت . بشرةُ يدِها فقدت طراوتها ، ترهَّلَت . آه _ صرخت في داخلها _ كيف ؟! وإلى أينَ نُقاد ؟ ما لنا نحصد سنواتِ العمر غمّاً وافتقادَ مَسرّات ؟ لماذا تتهاوى أحلامُنا مضرّجةً بدماءِ الخيبة ؟ ما الذي فعلناه حتى تؤول خطانا إلى هذا الدركِ من التقهقر والانحدار ؟
    تتيه في غمارِ الأسئلة ، يلفُّها الضياع . تحسُّ بأنَّها ضعيفة إلى حدٍّ لا يُطاق معه التأمل . وكمثلِ مَن تهشّمت أمامَها مرآتها الثمينة فحزنت ثم امتثلت لهيمنةِ مصير لا قدرة لها على تحدّيه كانت تحاولَ التجمّل بالصبرِ واجدةً في ملامحِ أولادها وتطلّعاتهم عزاء لها في الوجود ( تفكِّر بهم . تدري أنّ الحياةَ ستُبكيهم أضعافَ ما تُفرِحهم . وستهشّمهم أكثرَ ما تبنيهم .. تدري بما تخفيه لهم مسافاتُ التيه ومداراتُ الغيبِ الرابضة خلفَ أستارِ سنيهم الآتية ) فتنكفئ مرددّةً بقناعةٍ ناقصة :
    _ أريدُها لكم حياةً تنأى عنكم نهاراتُها الضارية وتجفيكم لياليها الشاحبة . أنتم يا مَن صُرتم بقايا نورٍ لشموسي الذاوية .. أريدُها لكم .. نعم .. لكم أريدها .[/center]
    مشكور اخوي الحربي

  2. #2
    مميز الصورة الرمزية النمر
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    jeddah
    المشاركات
    1,269
    معدل تقييم المستوى
    137

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    يتبع ...........

    (10) قصص قصيرة جداً





    فضاءات بدوية


    زيد الشهيد





    (1) افتضاضات



    حفنةٌ من تدفّقات اليقين نتوسمها كيما ننفض عنّا غبارَ اشتعال الذهن ؛ ونعود مستحمّين بأمواه الرغبة في الحديث حيث سمعنا من َقبل ولم نصدّق .. سمعنا وكنّا مزحومين بدافع التحققّات . ذلك ما جعلنا نترك الناقات التي بعهدتِنا ونعدو . نتعثر بأذيال أثوابِنا ادراكاً لـ" مخيبر " الذي واصل الصياح كنداءٍ يتطلَّب العجلة .. ( على رخاء الرمل الرخو يتمثل انسيابُها . بنعومةٍ وانسلال ترسم حركةَ الانزلاق المتحلزن ، مُخلِّفةً أثراً شبيه الحركة .. لونُها يعكس صورةَ رملٍ يترجرج لولا نثار البقع البنيّة المغبرة ، بدءً من مثلث الرأس المتشامخ حتى نهايات الذنب المُدبَّج . ومخيبر يتابعها بعين المتفحّص عندما فوجىء بخروجه من حيث لا يفقه ( ما هذا الشيء ، المخلوق ؛ النزق ؟! ) . ربّما الأجمّة هي التي أفصحت عن ظهوره ؛ وربّما أحد الحيوز الغَورية ما دفع به بعدما حفّز شمّه وزرَقَهُُ بيقين الاحساس بوصول طريدةٍ هي بمثابة غنيمة رُغم عسر المهمّة .. من مكانه نصف الظليل همسَ مخيبر : هو " الور " ).. اعتلينا صفَّ التلال وانحدرنا متتبعين أثر الصوت المتقطّع بين الأجمّات : جسد مخيبر منكمش / العينان مستوفزتان / العصا متحفّزة كأنه هو مّن سيواجه المصير … حين سمع لغطَنا واقتراب لهاثنا توسَّع جسدُه كما لو أنّه استعار أعضاءً أخرى ولحماً جديداً ليستعيد حجمَه المعتاد . كفّه هي التي كلّمتنا عبر التلويح ، مشيرةً لنا بالتقرّب الحذِر.
    جواره تركنا قاماتنا القصيرة تأخذ شكل التقرفص ، وعيوننا تمارس فعلَ التحديق .. رأيناه أولاً ( .. لماذا تستعير مخلوقات الصحراء لونَ الرمل ؟! ولماذا يتربص أحدُها بالآخر؟ .. متماهين بالأسئلة المتهافتة أبصرنا رأسَهُ التمساحي يرتفع . تحفّزت قدماه الأماميتان تثبان بأقصى انتصابهما فيما جسده الحرشفي الطويل يتقوّس ، وذنبُه المخروطي بصلابةٍ وقسوةٍ يعطي مهمّة السند للهيكل المتحفّز .. يغرز العينين الوحشيتين في قوام المنتصبة قبالته بنابيها المعقوفين .) ..
    كان البعد بينهما لا يتعدّى المتر . وكنّا نعود إلى حديث الأمس ينسكب من أفواه جُلاّس المضيف _ أبائنا وأعمامنا _ عن سقوط الأفعى رُغمَ كيدِها وحذقِها ونفاذِ سمّها السريع لشلِّ مُجابهِها .. خاويةً تتهاوى بعدما تفقد سماءَ الكبرياء ؛ وتجد أنْ لا كوّة أمل تنفذ منها سوى كوّة الاستسلام بخنوع خانق ، مُميت ( القفزة الأولى حسرَت المسافةَ كثيراً فألفاها تغرز النابين في عنقه ؛ باثّةً اخضراراً سرعان ما توزّع الأعضاء لاغياً لون الرمل الذي يتَّصف به مظهره .)
    ينتفض ! .. وبشيء من الوهن يتركها متحركاً صوبَ شجيرةِ شيحٍ خضراء . ومن مكانها تسمع الأفعى احتكاك حراشفه بالأوراق الخيطية فتدرك أنْ سيأتيها .. يعود إليها الانتصابُ . ترجع صبغةُ الرمال إلى جلده الخشن . تتّسع عيناها اندهاشاً . تخامِرُنا حدقات المتحدثين تسكبُ بريقاً ينمُّ عن حفاوةٍ باهرة لفعلٍ مكين وإصرارٍ لا تهشّمه الضربات الأولى حيث " الور " يأبى الاستسلام . والأفعى لمّا تزل بدافع الوجود الخَلقي الغريزي وطوق الصراع الذي وجدت حركتها محكومةً بسيطرته تصرُّ مجاهدةً على البقاء .
    يتمظهر المشهد من جديد : تنغرز الأنياب ؛ يخْضر الكيان .. تهتز كتلة الشيح .. يعود الور . لكنَّ العتاد السُّمّي الخزين في النابين ينضب . يبقى انغرازهما في سُمك الحراشف لا طائلَ منه فتشرع قواطعُ الهيكل التمساحي تمزّق الأنسجةَ التي تروح تتخلّى عن توترها لهيمنةِ الارتخاء ) . نمسكُ خيطَ التحقّق من مثول المشهد باعث الفضول .
    وفيما تتساقط أنظارُ العينين اليائستين على اخضرارِ الشجيرة الماثلة وينشغل المُنتصر بالتهام فريسته يأتينا صوتٌ من بعيد :
    _ هي ذي أفعى أخرى !
    _ هو ذا ورٌّ آخر !
    ننهض ؛ وبقفزات فتوتنا الراهصة ننطلق لاستطلاعٍ قادم جديد حيث الآماد الصحراوية عالمنا الممهور بالإسرار .. كثبان ، وأغوار ، وفيوض ، وعواصف ، وسكون . ثم تأمل .. تأمل .. تأمل .
    هكذا نقضي الأعوام / الأعوام سعياً لافتضاضات تنتظرنا خلل مسارب الغيب الضبابي الجهيل ؛ قطفاً متواصلا لثمار الدَّهَش ، واستحماماً حميماً رائقاً بأمواه الرغبة في الحديث وتبادل الحكايا .



    ( 2 ) رَشــَف


    هالنا نداءُ الذي دعانا ، فاندفعنا دهشين / شغوفين / تائقين .. تركتنا أفياءُ الزقاق نرتمي أسفلَ دائرةِ شمس الضحى ؛ والصوتُ النادِهُ يسيلُ في قاروراتِ آذاننا مُحفِّزاً الأحداق على ممارسة الاتساع بغيةَ القنص . نتساءلُ بعين البحثِ ونواصل الاندفاع عطشى / جائعين ، نبتغي الرواءَ من حليبِ النوق المُرتجى . إنْ ارتوينا بارتِشافه سيمنحُ سيقاننا القوةَ في الجري _ سيشدُّ السواعدَ في الصراعِ ( هناك !! عند انتهاءِ الشارع / قُربَ الانعطافةِ الشمالية اقتنصت عيونُنا هياكلَ الناقات الوفيرات ، تخطو مخلِّفةً آثارَ أقدامها _ طبعات كالقلوب الملأى بالشهد _ ذلكم ما كنّا ننتظرُهُ كلّما بانت بواكيرُ الربيعِ بعد غيوثٍ هطّالة تستحمُ بها المفازات القصيّة الامتدادات ؛ وكلّما شهدت مدينتُنا الصغيرةُ أرتالَ الجِّمال مخترقةً الدروب بحداءات البدو وهمهماتهم ، خروجاً نحو فيوضِ الأمواه العشبية ) .
    خفَفنا ...
    جموحُ الرغبةِ يسحقُنا / ترهقنا خشيةُ الفشل ..
    والبدويُّ المتقدِّم نوقهِ طفقَ يلتفت فيبصرُنا نعدو باتجاهه ... وبدلاً من أنْ نثير غرابتَهُ بلحاقنا إيّاه توقَّف ليشهد انحناءات قاماتنا القصيرة ، وركوعَنا عندَ طبعاتِ الأقدام .. نغرزُ خناصرَنا في قلبِ الأثر ، ونمتصُّ بابهاماتنا الحليب المفترض ؛ طعماً شهدياً أحسسناه يثخن داخل أفواهنا بلذاذات عذبة المذاق مع طبعِ النَّهَمِ المتفاقم في سحبه ، وسط ذهول البدوي هذه المرّة وغرابته ، مدافةً بالتساؤلات غائمة الإجابة .
    الناسُ من على الأرصفة يحدّقون بالمشهد ، ويبتسمون ..
    نحنُ من على الآثار القلبية نرتشف لذة الحليب ..
    نرتشف .. نرتشف .. !
    ولا نأبه ...



    ( 3 ) ذهول الغيب


    على سكاكين الألم الدفين ودهاء المسالك المتعثرة كانت تتقدمه ؛ يجر الخطى خلفها جرّاً ثقيلاً . تكلمه بصوتٍ خفيض فلا يجيبها ( الحنجرة معطوبة ) .. البدوية التي كانت تمسح وجهه بنظراتها الحزينة تتمنى أن يفوه كما كان لكنها الآن تتأسى على تخاذله أمام كلاّبات شلِّ المقدرة ... فيوض الأحلام غدت مندثرة / بائدة . الروحُ منسحق ، والقلبُ معصور .. معصور جداً . ما فاد السَّمن المُداف بصفار بيض الصقر ( تقول ) ولا ملاعق العسل الأسود ، ولا حتى تمائم الرجل ( المري ) فهل بمقدور طبيب الحضر شفاؤك ؟!. من أين جاءتك هذه البلوى ! .. البدوي الذي هو زوجها لم يفعل شيئاً سوى إنه رمقها بعينين باهتتين ، وكان داخلُها يضجُّ بالحنين مستعيناً كتوقٍ ذاتي إلى زمن التبجح يوم جاء بالذئبين الضاريين بعدما عملا نوائحَ للاهلِ ولمضارب الأقرباء ،، يجرهما بحبلٍ وقد تعفّرا بالرمال مثقوبي الجسد ، وقتها عزم أبوها على منحِها إياه هبةً لفعلِ الرجولة الباعث على الزهو ... شاهدا الرجل المكلَّف بالمساعدة ينتظرهما عند باب بنايةٍ يرتقي سلَّمُها صُعَّداً نحو العيادة المقصودة .. هتف بهما : لقد تأخرتما ...
    حين نزلَ الثلاثة ، وبيد المُرافقِ وصفةُ الدواءِ طبع الصمتُ ختمَهُ ، مُكبِّلا لسانَي الاثنين ؛ وكان الرجل البدوي ذاهلاً / غريقاً في شدهِ التفكير . وكانت البدويةُ تبكي من وراء حُجب الرؤية ..( هي ) ترى أفقَ الصحراء مُضبَّباً بدواكن الغَمامات ، وأعاصير الفقد . ( هو ) يتبين النهارَ مُحتدماً بالتلاشي / زاخراً بالقتامة ؛ فيما الصيدلي يكلّم حامل الوصفة : لا شيء فيها ! مهدئات فقط ؛ مهدئات لصرف الوقت ليس غير .. فيجيبهُ الرجل المرافق همساً : " أعرف ذلك .. أعرف . " . ثم يستدير ليرى إلى أصابع – السرطان – تنشب أظفارها المقيتة في الحنجرة التي عجزت صاغرةً عن النطق لرفيقة العمر ، واستكانت مُجبرةً لوحشيةِ المجهول .





    ( 4 ) نحت الأيام


    لأيامٍ جهيدةٍ استمرَّ البدوي يبكي صقرَهُ الذي خذله بعدما جاءت الوقائعُ مُخيبةً للجميع .. يزرعُ نظراته عليه فيتأسى . يلمحه فتُثار لديه حمّى الشفقة ، ثم يأخذ الحنق حيّزه من الرحيلِ تفكيراً جرّاء ما سبَّبه من كلامٍ سيبقى رسيخَ ذاكرةِ أقرانه من البدو السائرين أو المستقرين ( .. كان جوّاً ملبداً بالخفايا ساعةَ تركَ الصقرَ ينطلقُ رشيقاً / خاطفاً ،، سهماً يلاحقُ طيرَ الحباري : مليئاً بالوثوق / مُفعماً بالغرور . يحسبُ الطريدةَ يسيرةً ، هيّنة – لطالما حققَّ فعلَ الصيدِ العسير ، وتساقطت الحباري والقطا ذليلةً / واهنة أدنى تقوس منقاره النافذ أو جافلةً بتأثير نشوب مخالبه في غضيض الأنسجة المشدودة ..) يبصر ريشه المتهرئ خيوطاً، والجلد المسلوخ حرقاً ، والعينين اللائبتين وهما تبوحان بانكسار مهين .
    مُداهَماً بالايماضةِ السريعة يستذكر الرجلُ البدوي كيف إنقضَّ صقرُهُ فأخطأ ، وكيف هوى فخاب ؛ وكيف بصقهُ الطير المُرتعب برشقةِ ذرقه الدفاعية مُبللّةً الجسد / خارقةً الريش .. صارت ديمومةُ الخنوع تتبدّى إزاءه كابوساً مُرهقا . ما عاد يحتمل لهيبَ الفجيعة / ما عاد يجابِه عيونَ المستخفين .. ضراوةُ الألم لا معيق يكبحهما ، والأيام تنحتُ حكاياها وتمر ، لذا فضّل بقرارٍ حاسم جعلَ الكفِّ السمراء تمتد إلى الغمد الجلدي ، تجوس بأصابع متحفزة كتلةَ الحديد الساخن في قيظ هذه الوهدة الحارقة ... تستله الكف ثم ترتفع بطيئة / مُصوبة العين الواحدة السوداء نحو العينين المَهيضتين .. يتوقف العالم حوله / والامتداد الرملي يرتسم مدىً زاحفاً يذوّبُهُ الأفقُ الغائر .. أوعزَ للعين أنْ تطلق صرختها الراهبة دويّاً ، هاتكةً سكون العراء بقايا بصيص لعينين الشاحبتين – وإلى الأبد – ؛ صانعةً لوناً قانياً شرع يُعلِّم قطراته على صفرة الرمال بينما انفلتت أنفاس ارتياح من الصدر المَكلوم بحسرةِ التطلع المُعيب ، وخشيةِ العار المحكي بين دلال القهوة الساخنة / تحت السقوف الوبرية أو في فضاءات الخصومات والألسن النارية ....





    ( 11 ) قصص قصيرة جداً
    كورنيش السماوة



    زيد الشهيد




    (1) لقاءات عابرة


    نلتقيها على قارعة كورنيش السماوة الفتي دوماً ؛ نحن الرائحين الغادين ، الساعين لتصيّد ضحكات الفتيات اللائي ولجنَ أبوابَ المراهقة منذ أيام . عباءتُها المهفهفة على القوام _ الذي تُجاهد أن يكون متسامقاً _ تشي بفوضى دواخلها المبعثرة . خصلةٌ من شعر أحالته الأصباغ الكيميائية ناريّاً متصلباً تتراقص على وجهها ؛ وخصلة نافرة طيّرها الهواءُ الهارب من أقصى الشمال ، وأخرى تتحيَّن زمانَ الانفلات لتنطلق .. الفستان برّاق باهر يشدُّ جسدَها فيُفضي الضمورَ في اعضائها التي عفت عليها الأيام فتخلَّت عن ديمومةِ بقائها بضّةً حيوية مُلفتة للانتباه . ( يومها كنّا فتية ، وكانت هي ترفل ببهاء الشباب نلحظ العيون المشاكسة الوقِحة تلاحقها بنهمٍ شديد يصل حدَّ القظم من ألقها المشع ، وهي فراشةٌ راقصة تستعرض مفاتنَها . نقترب ابتغاء لفت نظرها لأيٍّ منّا .. العينان الصفراوان تضيقان ، والشفتان التمريتان تتشنّجان ، ومرآةُ الجبهة البيضاء تضيق فنستلم بحزنِ التلاميذ شهادةَ الفشل في الاقناع ، ونسمع الكلمات الساخرة تلطم آذاننا : " بعد عليَّ زعاطيط هذا الوكت ! " ، فننكفىء حاسرين .
    المساحيقُ فاقعة اكتسحت وجهَها سعياً لاخفاء تجعّدات دقيقة شرعت تستبيح أسفل عينيها الطافيتين على غمارٍ من كحلٍ كثيف . والجبهةُ / المرآة استحالت شاشةً تعرّي وتجسّد طيّات الغضون التي من اليُسر عدّها .( إنها تتطلّع إلينا الآن . تستجدي نظراتنا ، وتُرهف السمع لمفردات علَّ أحداً يطلقها ببلاهةِ مَن يتعطّف على فقيرٍ مسكين . يقول أحدُنا : انظروا إليها ! لقد ظنَّت أنَّ صباحات الندى دائمة وعصافير الهوى ستطير أعلى رأسها تُسمِعُها السيمفونيات المنبعثة من الصدور المتلهّفة والقلوب العطشى .. ولكن !! ) هيهات ، تفوَّهت بها شفتا الزمن . إنَّ ما فات مات .
    تجاوزناها ، فالتفتت . وسمعنا صوت الحقد : " شباب طائشون لا يكفّون النظر إلى بنات الناس . " .. لم نرُد ، فعيوننا كانت تستقبل الفاختات اليافعات اللاتي ولجنَ أبواب المراهقة منذ أيام وهنَّ يخطُرنَ بكل ألقهنَّ وعنفوانهنَّ فنعمد جذلين إلى اطلاق هتافات الاعجاب : سلاماً .. سلاماً مراهقات كورنيش السماوة .




    ( 2 ) حب مُعاصر


    نثَّ المساءُ غبارَه المُعتم فبعثره وهجُ المحلاّت ومصابيحُ أعمدة الكورنيش الزئبقية . طفت على وجهها وهي خارجة توّاً من الزقاق مسحةُ ارتياحٍ ، وابتسمت قليلاً لأنسام النهر الباردة ؛ ( نعم ، لمحناها _ وكيفَ تفلّت منّا _ وهَب أنها فلتت فلنْ يُضيرنا شيء . بعد قليل سيأتي ليحكي لنا قصّةَ الفيلم من أوله إلى انتهائه .. خيالاتنا تتأجج ؛ ولا بدَّ هو الآن يُعيد ترتيب مكانٍ كان وإيّاها يلعبان فيه لعبة الجذل المثير ) . تتعثّر في مشيتها . لقد تأخرت عنده هذا اليوم دون أن تدري أنَّ لظى الجمر في أعماقنا يستعر مذيباً ما تبقّى من جبال الثلج ويحيلها مراجلَ ساخنة تنتظر مّن يُطفِئها .
    يمر الوقت بطيئاً ؛ وتمر أسرابُ العباءات ثم تختفي . تلتهمها عطفات الأزقة واستدارات الشوارع . لا خطى تضرب قارعة الكورنيش سوى خطى المراهقين الخائبين ، وأناس أغلقوا دكاكينهم في السوق القريب .
    ومن فم الزقاق أبصرناه قادماً ؛ منهكاً يجرُّ الأقدام :
    _ يا عم ! كفاكَ خُيلاء . نحن نحترق وأنت تعوم على رغوة الخدر . أنتَ تعيش تفاصيل الواقع الصادح ونحنً نتعكّز على خيالاتنا البائسة .
    _ لا .. لا.. صدّقوني لم أرها اليوم .
    _ أنتَ تكذب . تؤاخذنا على رهزات الخيبة التي نفعلها في الظلام .. إلى هذا الحد وصلت ؟!
    _ لماذا تشككّون بكلامي .
    _ ولكنها خرجت قبل دقائق .
    _ أنتم مجانين ؟!
    _ بل أنتَ المجنون !
    لعدّة أيامٍ كانت تدخل الزقاق وتخرج ؛ وهو ينتظر في عرينه الذي استحال وجراً مرفوضاً .
    _ تعال معنا . انها لم تعُد لك . ألا تصدقنا ؟ .. هاهاها . اتركوه . دعونا نذهب إلى سينما سمير أميس .. هيّا ؛ فهناك ستكون رهزاتنا ضاريةً على ايقاع الروك وأفخذ مادونا الرخامية .




    ( 3 ) تعارف


    _ إنّها لي !
    ويقفز من بيننا فيما نظلُّ متسمرين على المصطبة التي تضمّنا . تلاحقُهُ عيوننا . يقترب منها ( نحلة تقطر عسلاً ، تتهادى برهافة عاطرة . تتطاير أذيال عباءتها في الهواء ، تخطفنا منه فنتركه في طيفِ ملاحقتِه لها . تمرُّ من أمامنا :
    _ ما للنحل هذه الأيام يتباهى أكثر بشهده الرطيب !
    يستدير وجهُ النحلة صوبنا . قليلاً ويرتفع الأنفُ شمماً ، ويعود القوام يتمايس في خطوه .. تجاوزناها . نصيح : " مَن ينهض إليها ؟ " .
    _ لا .. لا . لن يستفيد أحد منها . هي من اللواتي يخطرنَ يومياً . لنعد إلى صاحبنا )..
    نلمحهُ يكلّمها _ يمدُّ يداً إلى جيبه _ يسلّمها شيئاً .. صنّارته أمسكت .
    جمعٌ من حمامات يقاربن الخمسة يقتحمنَ الطريق خارجات من معرضِ اكسسوارات يتضاحكنَ ، يتمايلنَ ؛ لا يلتفتنَ ... ما لنا جالسون ؟!
    وننهض . كلٌّ يُحدد ما يشتهي :
    _ هذه السمراء الطويلة لي .
    _ وتلك التي تجاورها من حصّتي .
    _ أنا أحبُّ البيضاء الربعة .
    _ هي لكَ ، واترُك لي صاحبتَها .
    _ والخامسة ؟
    _ بقيت له . لعلّه يعود .
    _ لن يعود . لقد ظفر بها .
    رحنا ندنو .. دنونا منهُنَّ . يخطين بلا مبالاة . خطوات وتوقّفنَ . توقفنَ عند سيارةِ صالون سوداء هبط سائقُها العسكري فأُسقِط في يدنا . لا وقتَ للعودة . ومررنا نتظاهر بعدم الاكتراث .
    _ غداً امتحان فيزياء عسير . علينا بذل جهدٍ وفير ... نطق أحدنا .
    وعدنا بخيبة الضار...ن . يضحك أحدنا من الآخر .. نحسدُهُ ، فهو الذي فاز بكل شيء .
    على المصطبة فوجئنا به جالساً :
    _ أفتِنا يا مصباح علاء الدين .
    _ " سليمة " .. اسمها سليمة ؛ لكنّي عجزت عن قراءة اسم أبيها . خذوا اقرأوا .
    وانهالت العيون على قصاصة الورق تلتهمها !!! ... ثم انفجرنا ضاحكين .
    _ ما بكم .. ملاعين ؟!
    _ " سْليمة كرفتك " * .. يا خايب .. سليمة كرفتك . هذا ما كتبَته لك .



    (*) يُشار في اللغة العامية العراقية على المنية بـ" سليمة " . وهي اهانةٌ تعني أتمنى أن تأخذك المنية .



    ( 4 ) مصيـدة


    تخرج من محلٍّ لتدخلَ آخر .. تخرج من ثانٍ لتدخلَ ثالثاً . لا تكلُّ ولا تمَل فنتابعها مشدودين . نسينا أنَّ المراهقات كثرٌ يفِوقنَّها خفّةً ورهافة . لكنّ الهوى الذي يملأ خوافقَنا ، والنزوات المعتلجة في نفوسنا هي التي ألَّبت فينا رغبةَ الملاحقة .
    اجتذبتنا الضربات المموسقة لكعبي حذائها العاليين على بلاطات الرصيف الملوّنة . تمايس الجسد المُترع بالغنَج تحت العباءة المتحررة أغرى الواحدَ منّا لأن يحظى بها فيلجم جنون الشباب المُستعر في جوفه .. تزدهي هي والمحلاّت المتراصفة بمعروضاتها وشلالات أنوارِها المنهمرة . خرجت مبتسمة / ضاحكة . دخلت محلاًّ أوسع بذات الابتسامة والضحكة المصطنعة . ( هم يستقبلونها بانفراجِ أساريرٍ وكلماتٍ ودود لوطرحناها عليها لأنكمشت جبهتها وتقطَّب حاجباها وأسمعتنا الذي لا يٌسمَع . هكذا هنَّ نزواتُهنَّ في ..... لماذا لا نحظى إلا بجفائهنَّ .. آه . من جميلات سماوتنا الغافية على جنبات الفرات . إنهُنَّ يحرُقنَ الأفئدة بلا رأفةٍ : سهام ورؤام ونجلاء ونادية وزينب وأحلام و...... أسراب من القطا يمور بهنَّ الطريق ، وطُرقات قلوبنا خالية . لا واحدة منهُنَّ تُجبر خواطرنا .. لا واحدة تصنع الخطوة الأولى .. تعالنَّ بلا وجل / بلا خشية .. تعالنَّ ستجدنَ أرواحنا رياضاً غنّاء . ارفلنَ كما يحلو لكُنَّ ...
    وتذكّرناها ! . دخلت ولم تخرج . ) . طالَ مكوثُها هناك ؛ لننهض ونقترب ؛ لا يجب أن تفلت منّا .. كلاّ .. كلاّ .. كيف ندعها تفلت ؟ سنكون أغبياء لو حصل ذلك . لندخل المحل .
    ودخلنـا !
    تفحَّصنا المكان فلم نظفر إلاّ البائع عبوساً ، وبضاعة مبعثرة على عارضة البيع .. غيَّر الرجل من قسماته . رسم ابتسامةً طائرة عندما اتجهت أنظارنا إلى باب ثانوية مواربة على زقاقٍ فرعي اندفعنا عبرها فلم نواجه بغير العتمة وصمت الحيطان وأذرع الفراغ تلطمنا وتطيح بهيبة ذهولنا المُنتَهَك .





    صنعاء
    آذار 1995





    قصص قصيرة جداً




    زيد الشهيد


    (1) مناجـاة

    بين حين وحين تأخذ بي خطاي المرتبكة عبر دروب متصلّة تُفضي إلى بابٍ عريض وجدارٍ عالٍ تجثو خلفه أجداثٌ ترنو بصمتٍ موحشٍ كئيب إلى أيّما صوت يأتيها من عالمٍ متجافٍ خئون .. وهناك خلفَ شجرة السدر الوحيدة التي تحتويها المقبرة وبين القبور المستكينة يقبع قبرُها الصغير متهالكاً ، بائساً كأنّه قِيسَ بحذرٍ على جسدها الضئيل _ أتذكرُكِ يا ليلى وكأنّ السنوات المتراكمة التي ماعدتُ آبه لحسابها قد تلاشت ، وها أنا صرتُ رجلاً ، وصار لي زوجة وأولاد يسألونني بالحاحٍ عن ذكرياتي وأيامي الهاربة . فأعود وأرى وجهَكِ فتيّاً وعينيك تطفحان لهفةً للحياة ) .. آ .. كم كنتُ أسألُكِ عن سرِّ الشحوب الذي يكسو وجهَكِ ويتفاقم يوماً بعد آخر . كنتِ _ يا لحسرتي _ تخفينَ اجابتكِ بابتسامةٍ تحاولينَ نقعها بصبغة اللامبالاة ، ولم أكن أفقه كنهها آنذاك إلاّ حين تهاوت الشمس وأفلَ ضوءُ القمر ، وما تناهى إليَّ من أنَّكِ رحلتِ إلى مدينةٍ في الجنوب تزورين أقرباءَ لكِ يتحرّقونَ شوقاً ؛ ولم أدرِ أنّه سيكون غياباً أبديّاً ، ولم أدرِ إلاّ وأنا أتلقّى ورقةً صغيرةً موشّاة بالحنين سلّمتني إيّاها أختكِ الصغيرة ، كتبتِ فيها : " وداعاً .. وداعاً ؛ ربّما يطول غيابي فاعلَمْ أنَّ روحي ستبقى فاختةً مفجوعة تحطُّ على شجرة الزيتون الناهضة في فناء داركم لتغنّي لكِ أغنيات الشجن أو عصفورة تحط على نافذة أيامِكَ القادمة لتنشد لكَ ترانيم الوفاء . " . يومها بكيتُ يا ليلى ! بكيت بكلِّ عنفواني وصبري وضياعي . عزمتُ أن آخذَ قِطار الجنوب صوبَ المدن البعيدة والقرى المجهولة المتناثرة هناك بحثاً عنكِ . غير أنَّ هاتفاً خذيلاً جعلني أستكين ، متّخِذاً الذكرى عزاءً لي في غيابك ... رحتُ أنتظُرُكِ ! ( أنتظر يوماً سيأتي نلفُّ أزقّة السماوة عدواً ، نطوف في حواريها الوديعة . نقف على أعتاب جسرها العتيق . نلقي بأنفسنا في عرض الفرات ، ثم نعود تبللنا أمواه الحيوات الكامنة فيه مفعمين بالأريج المحتشد على ضفتيه ) . لكنكِ ما عُدتِ ... حملتكِ بقسوتها المُجحفة عرباتُ الظلمةِ الأبدية فخبا بريقُ عينيكِ وانطفأ ؛ ولم تشفع براءتُكِ وسنوات فتوتكِ اليافعة ... وها أنا أعدُّ على شاهدة القبر الرخامية أعوامَكِ الخمسة عشرة . يأخذني الحزن ، وتهرم سنواتي المتزاحمة . تشيخ وتتلاشى فأتيه في مفازات الرغبة والانتظار للقائنا السرمدي ، ولحظات الاحتضان السديمية .




    ( 2 ) نظريتي التي أُجاهر


    يتكوَّرون في زويا المقهى ‘ لائذين بالصمت والنظرات الغريبة التي تستقرىء أخطاراً مداهمة ليس لها أي وجود في الواقع .. وإذْ يٌلقى السلام من زبائنَ يوميين يتململون هم في أماكنهم ... السيد ياسر صاحب المقهى يتعطّف عليهم بابتسامات برقية ونظرات خاطفة تزرقهم بالأمان وتغذّيهم بطمأنينة بقائهم في ملاذاتهم ؛ نائينَ عن تهديدات العامل الذي يجد فيهم وجوهاً بغيضة وفألاً سيئاً لزمنه القادم .
    أنا أقترب منهم بلباسي المهندم وشعري المصفف وكتبي التي أنضدها جوارهم ، فيرسمون تباشير الامتعاض ( يشنّفون أنوفهم ، ويزمّون شفاههم ) ؛ وحين أقول أنا صديق لكم فلا تتعصّبوا . لا أجد منهم ردّاً وديّاً ؛ بل نظرات تقطر تشككّاً واستنجاد موجهة للسيد ياسر كي ينقذهم من فضولي المنفر لهم ، وثقل جلوسي الغريب عليهم . ذلك يجعلني أتأسّى على نفسي . أُصمها بالخيبة والانكفاء ؛ فأنا أدّعي الثقافة وحسن البصيرة وقوّة الاقناع _ أحمل كتب روسو وآدلر وديكنز أنّى سرت _ نظريتي التي أجاهر تقول : أنَّ من المحتمل تحجيم سلوكيات الأفراد الاجتماعية السالبة وامكانية احالتها إلى الإيجاب أوتحييدها على الأقل _ وها أنا على المحك الظاهر ؛ وها هم أضعاف الأفراد وأهزّهم ارادة كما أحسب .
    خرجت من المقهى ضجراً متجهماً مودعاً من قبل السيد ياسر بجميل الكلام ؛ ومنهم بنظرات الترفّع . وأنا أخطو صوب زقاق فرعي ألملم شتات الأفكار المتضاربة قفز إلى رأسي رأي مفاده : أنَّ المحاولات المتكررة المغموسة بالصبر مَسلمة أُولى إلى النجاح . وهكذا قررت اعادة المحاولة ، فهؤلاء يطفون على سطح البساطة والضعة ومن اليسر البدء بهم لانتاج بحثي .
    في اليوم التالي كان وجه السيد ياسر أكثرَ بشاشةً وهو يستقبلني . ربّما حسبني سأصبح زبوناً مترددّاً إلى مقهاه فزاد من الترحاب . رأيتُ وجوههَم منقبضة . انكمشت عيونهم حالما تملّوا طلعتي . تركتُ الذين جالستهم البارحة واقتربت من آخرين يشبهونهم . حييَّتم فأتاني الرد يزخر بالأمان . وما أن جلست وكنتُ على وشك التفوّه إليهم حتى أحنى أحدهم رأسه هامساً بكلَّ ثقةٍ في أذني :
    _ عُد إلى كتبك ، يا استاذ لئلاّ نُفسد أفكارك ! .. عُد نرجوك ؛ فقد حاول الكثيرون قبلك وما أفلحوا ، فهذا عالمٌ ارتضيناه لأنفسنا عن يقين ؛ وكفى .


    تموز / 1994 _ السماوة



    ( 3 ) أولاد متمادون


    لا يدري لماذا كلّما طالبه أولاده الصغار أو تمادوا في طلب أشياء تذكّر تلك السنة التي قضاها مُعلماً في مدرسةٍ ريفية . كانت وجوهُ تلامذتِه الصغار بملامح تختلف عن التي عند أولاده . فالصفرةُ لون تنبت رياح سيادتها على تلك الجباه والخدود والاعناق . والزرقةُ بتجبّرٍ وسلطان تكسو الشفاه ؛ لكنَّ القناعة أثمن ما يملكون . لا يٌظهرون الجوعَ تضوُّراً ، ولا الضجرَ احتجاجاً . يأتون بلهفةٍ لا يجدها عند أغلب صغار مدينته . ابتسامةٌ مقتضبة وتحيةٌ صباحية تقطرُ خجلاً ، وأكياسُ قماش معلّقة على الأكتاف ، تحتضن كتيبات حرصوا على حفظها وسلامتها ... ويوم يشعر بميل إلى تعذيب وكبح جماح روحه التي يظنّها تمادت كثيراً في حريتها وغرورها يروح يقف في مقدمة الصف مقتطعاً من الدرس وقتاً ليبتدىء رحلةَ الأسئلة مع تلامذته تتبّعاً : ماذا تناولت من فطور ؟ وماذا تعشّيتَ البارحة ؟
    وتأتيه الردود تقطر براءةً من أفواه صادقة في بوحها لا تعرف الرياء ، ولا تتقصّد استدرار العطف :
    _ لبن ، يا استاذ .
    _ وأنت ؟
    _ خبيزة شعير .
    _ وأنت ؟
    _ زبدة وخبيزة .
    _ وأنت ؟
    _ خبيزة وشاي ؟
    _ وأنت ؟
    _ شاي فقط ؟
    _ وأنت ؟
    _ لم أتعشَّ ، لكنني جلبتُ معي خبيزة .
    وإلى هنا يحس كأنّ جداراً يتهدّم في وجدانه ، وصورة كبرياء انسانية تتمزَّق وتتناثر نتفاً ؛ وقلباً يذوب ويتلاشى ، فيصرخ في داخله : كفى ! .. كفى !
    ويلتفت إلى أولاده المتمادين هاتفاً باستجداء : لا تتبطّروا يا أكبادي لئلاّ تنقلب !



    السماوة / 1993




    تَماديــات




    ( 1 ) تمادي أول


    ما كان حلماً ذلك الذي تجلّى ، ما كان رؤيا ؛ لأنَّ الذي مرَّ صارَ من عداد أسئلة تهافتت باحثة عن ردودٍ تشعل صقيع التبلّد ، وترمي على تلال الماء مراسيم التفتت . هذا إذا أقرّت ( لكم ، ولم تُقر لي ) هي رغبة التواصل وخرجت من فيافي الصمت المميت ؛ حيث الأنامل الشمعية تطبع تاريخها لهباً من انسحاق وتمادي يغذّي الروح بالتآكل عندما قالت لها النصائح قفي أيتها الفراشة اللاهثة خلف بيارق الاشتعال .. تمهّلي بلهفتكِ يا راكضة باتجاه شغف القتل اللذيذ .. يا شهد الطلع / أيتها الرهيفة المتلفّعة عباءة المساحيق الشفاهية .. رويدك يا خارجة من مضارب المازوش ....
    ما أبِهَتْ ..!!
    لن تأبه ...!!
    ولم تعرف لنداءات التحذير ترجمةً ..!!!
    انطلقت غارقةً /عائمة . وظلّت متواريةً / هائمة ... تنده بالنور المتذبذب قدّامها أنْ يمارس التعثّر كي تلحق به وتنسفح على دكته ؛ وكان هو لا يُعير همّاً لرجاءاتها السحيقة ، لأنَّ الفراشات ، الفراشات كثرٌ ؛ والمُحترقات ، المُحترقات متهافتات تترى ... يواصل السير حثيثاً ، ممتشقاً سيفَ الكبرياء السادي ، رافلاً على أديمِ الجراح الفاغرة لطعيناتٍ توسدنَ روابي الخديعة والتحفنَ الذكريات الرمادية ، ساعيات بعيونِ الندم لتلقّي نداءات الإنقاذ ؛ ولكنْ لا صوت للبحّة / لا مسامع للتشفّي ... وكانت هي تزرقُ ساقيها برغبةِ الجري الهوائي ، ناشرةً / واهبةً جناحيها لتطويق عنقِهِ النوراني النيّر ، وحيازة عطر الغواية حصيلة اللهب ، لا رماد الاحتراق آن مددتُ لها أصابعي ترسمُ برزخاً / تمنع انتحاراً . فما الذي حصل ؟
    قُضمت الأصابع ؛ وتفاقمَ عنادُها . ازدادت الهمهمة وتكرّست جحافلُ التحدّيات . يومها توقَّف اللهب أراهُ / أراها من بعيد . استدار فارداً ذراعيه لأجنحتها الرحيقية وأنفاسها اللاهثة ، وعينيها الممتلئتين شوقاً وانبهاراً بوهجهِ الساطع الذي سرعان ما بثَّ سحرَه الحارق ، مُطلقاً صوتاً كالشواء / مستأنساً لارتطام رخيم عند قدميه الباردتين .. هل اتّعضَت ؟! ....



    26/ 11/2003



    ( 2 ) تمادي ثاني



    إتَّخذت كتفَ النهر وجهةً ؛ وانحدرت خُطاها تلتهم انسراح الدرب .. ثمَّةَ السكونُ يُناغي خَدَر الماء ؛ وغفوةُ النهر تُحاكي همودَ شجرة سدر ، جامعةً حلكةَ الليل كي ما تحُقِّق رقاداً رَغداً لعصافير أغصانها المتعانقة فيما دبَّ من بعيد / من ضياع الأفق في لُجَّة البساتين المُدلَّهِمّة بالعَتَم نسيمُ هواءٍ مرَّ على وجه الماء فجاء بالطراوةِ والندى يمسّان وجهها .
    قالت لها الوحدةُ : خُذي من جسدي ثوباً لمشاعرك ؛ وفصِّلي من انهتاكي صوراً لماضيك .. تذكَّري ذلك الذي سحقتِهِ بكبرياء زيفِك المُبَهرَج ، وأطلقتِ عليه رصاصَ هجرِك ، ثم أرديتِهِ قتيلَ اللواعج / شهيدَ الانتظار .
    وقفَتْ كتمثالٍ يقتني شبحاً ؛ ونطقت كلاماً يحترق ألما .. تقول : تعالَ من بين ثنايا الماء الذي ابتلعَكَ فأغرقك !.. أُخرجْ من هَياج اليمِّ لأُلقي عليك اعترافات حُزني ، وسوناتات لوعتي ،، ثم تهافتات ندمي ، لأنَّكَ الأسمى لدي بعد انكفاءات أعوامي المهدورة على صخرة التمادي . أنا لكَ الآن ؛ فكُنْ لي بعد الآن .. أجيئُكَ هفواً ! فقُلْ ها قد جِئتُ احتضانا . رُحماك ! مدَّ لي كفَّ السماحةِ لأبكي عند ناظريك طفلةً فقدَت أفانين اللعب الخضيب ؛ وخذني كافرةً باقانيم غرور أرعن .
    من خلفِها / من جانبيها / من فضاءات دواخلها / من كلِّ الأصقاع تناهى إليها دبيبٌ هادرٌ يفتضُّ خَدرَ الرمل ويستهينُ برعشة الليل السَّكْين . ودَنت منها جيوشُ عقاربَ رعبٍ تبغي إرسال زُعاف سمومها إلى قلعةِ قلبها الخافق / الدفيق فهمّت بإطلاقِ آهة استغاثة أو صرخة تشفّع عندما انفلقت صفحةُ الماء وقال لها فمُ النهر : هلمّي ...
    لاهثةً اندفعت ، تخوض في غمار الشوق ، غائصةً إثرَ نداء الأعماق ...
    هناك !
    هنالك ! .. كان بانتظارها : ثغرٌ باسمٌ ؛ ووجهٌ صبوحٌ ، صبوح !!
    قالت : آآآآ .. خذني !
    و..................... !!









    قصة قصيرة




    فـلاش بــاك



    زيد الشهيد



    تفتّت الغيمة البيضاء لحظة أطال النظر في تواليات الريح وهي ترسم بواكير مقدم الخريف ... لم يكن يدرك فحوى الأمر عندما داهمته فكرةُ تجسيد حاول كثيراً جعله من عِداد اللا ضرورة لوصفه / اللا قبول لعرضه .. قالت له : سيجعلك البعدُ عن الديار تكره تفاصيل الحاضر ، وسيدفعك إلى العدو كالمعتوه خلف سرابات الذكرى التي ستتفاقم رويداً ، رويداً فتخسر بذلك تجارة الحاضر ورصيد الماضي ، وسترى إلى مستقبل تتراغى ضبابيته تماماً كما هو كل فرد من أقرانك أو أندادك آثر الضياع وصولاً إلى القطب المميت . ( تناثر جسدُ الغيمة وتفككَّت الأعضاء . تشكّلت جرّاءها أبعادٌ هلامية لا تمت لفحوى الأصل ... رأى قرناً يحاور ذيلاً ، ولبوة تفقد بطناً فيستحيل خطماً لخنزير ... رأى جذع شجرة يتهاوى بآلية بليدة ، ورموشاً بشرية تسيل كالدمع الضنين .) بحثَ عن قلمٍ دسّهُ في جيب بنطاله ليجعله سهماً يفتك بجسد أية فكرة ستداهمه . ( إنّه يتوقَّع هجوم الأفكار الدائم ، ويتحسّب للغواية المنبثقة كإصبع سحري من سيح رملي . ) .
    قالت له : سأكتبك قصّة أو أدوّنك قصيدة .. سأرسمُك معبداً مهما أبديت التنبؤ وتوقعتَ الذي سيحدث أو اللا يحدث .. سانحتك على قراطيس الذاكرة ،،، وسأطبعك على جباه الفجر . لا بدَّ أن أخلِّدك ، قالت ،،، عندما تشوِّشت إزاءه شذرية السماء ؛ وطفقت أشرعة الريح تبعثر حيويتها تمزيقاً لصفاء الفضاء الفسيح ... تذكِّر خريفيات بلدانٍ شمالية جابها زمناً مقارنةً بوجوده الماثل في واحة هي نقطة خضراء في مدٍّ رملي مفازاتي بلا حدود ... تذكَّر أنسامَ بليلة كانت تحمل أرائج لحاءات الشجر العملاق ، وقوامات الأغصان المتعانقة للغابات الناهضة توالياً ... عادت إليه صورة الأوراق الزاحفة بتحريكٍ حفيف على الخمائل الخضر ؛ عارضةً صفرة ذهبية كنبوءةٍ لا تقبل التردد بفصلٍ سيأتي ... تذكّر ساعات الحالمين وأنظار السائرين على أديم الرومانس ، هنالك في جلساته المتكررة على المصاطب الوفيرة ، متابعاً حركة الناس الرافلين بحبورٍ جنائني أو راحلاً يترجم فحوى المقارنة بين واقعٍ وآخر ... تذكّر " بوشكين " ومعشوقته " ناتاليا كونتشاروفا " التي غدت زوجةً قادته تحت تأثير حسد الآخرين إلى فم الموت ... تمتم أشعاراً من " كيتس " الحالم ، الرافض لجيوش " فايروسات السل " تفتك برئتيه الغضّتين . وحين مرَّ على " ديستوفسكي " تكدّر .. كان وإيّاه يتقاسمان " الصرع " ؛ يهبطان وادي الآلام ويشربان من منهل الوعي المرير ... تذكّر " مايكوفسكي " وقراره في وضع حدٍّ لتجني وإيقاف خيول الاحترافات الصاهلة في ميدان روحه المُعذَّب ، فانتفضت في رأسه فكرة سوداوية تقرِّبُهُ إلى اعتقاد أنّه مُنتحر في هذه الواحة وإنْ بدا متعافياً ،،، ميّتاً وإن أظهر نكراناً للهزيمة .
    آثر النهوض ، تاركاً مساحةً سطحية لتلٍّ اعتاد اعتباره منبراً لتفريغ الهموم ، ورمياً للحظات الشقاء . نهض مشفوعاً بهمسٍ يتعقَّبه .. عرفه : صوتها يمارس المناجاة ، ويلاحقه بهراوات التحذير مستلَّة من طوايا الحِكَم .. لم يلتفت ؛؛ فضولُها استحال ظلاًّ يلتصق به . ، وقلمه صار يخلق وعوداً تشي بالاحتفاظ / تسعى للتحقيق . يدري أنَّ النهار يطول . والأطول دهاءً لسان الليل يخاصمه بالقلق ، ويأتي إليه بعربات الهموم ، وكوابيس ، والتطيّر .
    في غرفته المسكونة بالصمت فوجىء بها تجلس عند منضدته ... وتكتب :
    " من مكاني النائي ؛؛؛ من ساعات تفكّري أنتقي كلماتك فأعزو حزني لتهالكات كبريائك ؛ ذلك الكبرياء المتخفّي بين ثنايا رداء التكلّف ..... هل وصلتكَ تحايا الثبات ؟! ... ألم تستعن بجَلَد المسحوقين بالآراء الكبيرة ؛ الناشدين رياض الشمس سنرفل على ثراها أنا وأنت معاً؛ ألم ؟! .. " .
    عندما مدَّت أصابعَ أنحلها الارتعاش كي تتحسس وجهها غزته غرابة الموقف / باغتته الورقة الزرقاء تضمُّ أسطرَ ، ولم تكن _ هي _ هناك ... كانَ الكرسي فارغاً ؛ فقط استقرّت عيناه على طابع يحتل زاويةً من مظروف دوِّن في وسطه اسمُ بلده البعيد ، وصدى أنفاسٍ هي من بقايا ألقٍ سحيق ....









    قصص قصيرة




    من دكنة الغسق .. من حوارية الذاكرة





    زيد الشهيد




    (1) دمـاءُ مِنجل خَثِـرة


    لاحَ لها صفيفُ النخيل بدكنة تشبه حزاماً مغبرَّاً ؛ وبدت معالم النهر البعيد كأفعى قاتمة تلوذ مدفونة في غمرة رمال أدكن ؛ والقرية لا يبان منها سوى بعض بصيص متناثر بين مصابيح كابية أرهقها الضباب الذي تعالى قبل وقت .. ما كان عليها الانتظار حتى تنجلي عتمة الغلس ( هكذا حدست ! ) بل حثّت الخطى كما لو كانت تسعى لتحقيقِ عهدِ ضمنت إنجازَهُ ... رأيناها من على عتبة سلم النزول إلى النهر ( وكنا نجلس نطالع همود السلاحف على خثرة الرمل الندي بانتظار قدومِها لنفجِّر في وجهِها هاجسَ الخشيةِ عليها ) تبدو كهالةِ نورٍ تتحرك باتجاهِنا ؛ وما كان أحدُنا ليرضى عن صمتٍ وسكونٍ وعدمِ تحرُكٍ لولا لامبالاتها للخطر الذي سينبثق في أيّما لحظةٍ ، ومن أيةِ ثغرةٍ مكانية تخفي وراءها حشداَ من الدهاءات المرسومة على الوجوه الذئبية التي تترصدها ( كان لفتنةِ قوامها وخفّةِ خَطوها عذرٌ للآخرين في حبْكِ الخيالات وبرمجة المكائد لنيلها والسعي إلى استحالتها واقعاً يتمثل كأحد ممتلكات ألانا المتنرجسة ) ؛ وكانت ( هي ) تمتلك ثقةً تجعلها تتحسَّب للمفاجىء فتعلن هيمنتها وسيطرتها واستحواذها على مراءاته ومخططاته الزائفة . وكنّا ( نحن ) نرقُبُ هذا التقدم الواثق مسحوقين بصدى أقدامِ عزمِها على المضي . لا نريدها أن تواصلِ السير لأنهم كانوا يرابطون ما وراء سور النهر لينقضوا لحظة اقترابها فينزِلون بجمالها وعفّتها والكبرياء هتكاً ( لقد صّدتهم مراراً وهي تُعلن أنها تساويهم بالكلاب التي تنبح بمرورِ طريقها ، وأسمعتهم ثقيلَ الكلام وخزي القول فلم يألوا جُهداً في التحمّل والنسيان ، ثم التخطيط بما يُرهق قدرتَها فيدفع سدودَ تحدّيها إلى الانهيار ما يضطرّها للجوء إليهم في ساعةَ ندمٍ وإعلان تخاذل . ) .
    تحركت وقد انبرى بكفها المنجل يتوثب لموقف ستنهجه وترد على تبعاته بضربةٍ باشطة تبتر عنقَ الكيد ثم بأخرى تطيح بهيبة( تلال المكائد ) ؛ وما كنّا نرى فيها غير المنتصرة دائماً . أمّا الآن فللخوف عليها والخشية من أن يمسَّها سوءُ فِعالٍ هو ما جعلنا نفكر بالنهوض من حافة سلَّم النهر والتوجّه إليها لمنعها من التقدّم وكشف الفخ الذي يُنصَب لها بإمعان . ( الزوج الذي هاجر لبلدانٍ نائية وخذلها بكت عليه ولأجله دموعاً من دم ، كما هشَّمت عند تخوم رغبة انتظارِها لعودته أحلى الأعوام واشذاها ولم تعلن انه غدَرَها فمارس الجحودَ لوفائها .. وكانت أنْ بقيت وفيةً تنتظر ندمه ، والإخوان الذين اتكأت على جدار كبريائهم في ملمّاتها تبعثروا في أصقاع ألدنا بحثاً عن عيشٍ يقيهم ملوحة الأرض الزاحفة على هناء أحلامهم ويبدو أنهم آثروا العيش لصفاء بالٍ هناك فمارسوا فعل النسيان ولم يعودوا يتذكرونها ) .. في البيت تركت وراءها ولدين وبنتاً يغطون في نوم بعدما أغدقت عليهم قبلاتها الحميمية ونظراتها الملائكية ، وأقسمت أن تُنشئهم على خصالٍ قلّما يؤديها الرجال من الآباء . وكنا على وشك أن ننهض ونعترض طريقَها وهي تقترب أمتاراً عندما همست على مبعدة خطوة بصوتِ الذي يملك شيئاً ليقوله خِلسةً بحيث لا يسمعه احدٌ غيرنا ، فائهةً :" اعرف ما تبغون قوله فلا تنهضوا فتفشلوا مخططي "
    واستمرت في خطوها بلا توقف ....
    ( وكنا نريد أن نتقافز لنخبرها بخططهم لنفشلها .. كنا نريد أنْ نقول لها أنَّ احدنا جاءَ بالأمس ليسرَّ لنا باجتماعٍ يعقدونه لاعتراض سبيلِها والهجوم عليها في هذا الغَلَس لينزلوا بها فتكاً وتجريحاً وليتركوها عبرةً لحاملي الكبرياء المَصون ) .
    الغَلَسُ ينثر رذاذَ عتمتهِ وصفاء لحظاته ويوهمنا بانَّ الليل لن ينتهي ، وأن المكيدة ستتحقق وفق مرسومهم لا طبقاً لمرسومها ، وأننا نتحنَّط في ديجور ليلةِ حسبناها إمّا ستكون تأريخاً لانتصارِ الغدر أو حدّاً فاصلاً لانهزاميته .
    استمرّت تتقدّم والعيونُ الرابضة هناك خلف ستار الدهاء شرعت تبرقُ ببهجةٍ تُماشي الموقفَ والمخططَ المرسوم فيما عويننا تدفَّقت تنضحُ خوفاً ، وشفاهُنا تُفجِّر ارتعاشاً وأناملُنا تتشبثُ بما يَبرز من حافّات الدرب الذي نجلس عنده ؛ والنهرُ يدرك عُظمَ الخطيئةِ التي ستُرتَكب لكنَّه عاجزٌ عن الكلام ؛ والعتمةُ لا تريد لوشاحِها أن ينجلي .. استمرت وكانت على بُعدِ خطواتٍ ليس غير عندما انتفضت جملةُ قاماتٍ دكينة منتصبةً كما لو كانت أشباحاً تبرز من جوفِ غورٍ عتيم .
    دنت منها .. !
    أحاطت بها .. !
    كانت ساعيةً لتضييق الدائرة والشروع بافتراسها وانتهاك مقدرتها عندما برقَ في عمقِ الظُلمةِ بريقٌ قوسي ؛ راح يضرب في كلِّ اتجاه ( ورحنا نسمع دربكةً وهمهماتٍ تعقبُها آهات ، ثم سقوطاً لأجسام تُصدر أصواتُ ارتطامها صدىً متوالياً ، ما لبث أنْ توقَّفَ مُعيداً لليل صمته وسكونه ) .. لم نبصرها تعود .. حسبناها قُتلت بمختلف الطعنات ومُزِّقت من خناجرَ شتى . بكت دواخلُنا ولم نكن قادرين على النهوض والتحرّي والوقوف على خاتمةِ الصورة التي بدت لنا كالكابوس المرهق الثقيل . خشينا من غيلةٍ قد تكون كميناً ثانياً يكمِّل متوالية الكمين الأول فننتهي إلى مقتلٍ بصورةٍ كارثية ستبكيه القرية بكل بيوتها ودروبها فانسحبنا مرتعبين دون أن ندري أنَّ حضورَ الصباح كشفَ لعيون القرية وأناسِها خمسةَ أجسادٍ ممزَّقة يعفِّرُها التراب ؛ وكشف للولدين والبنت الذين نهضوا من نومهم على أمٍّ ترقدُ بنومٍ هانىءٍ عميق على غيرِ عادتها ، ومنجلٍ لطَّخت بريقَه اللاصف غزارةُ دماءٍ سوداء خَثِرة .



    السماوة 1/11/2005




    (2) مناجـاة

    بين حين وحين تأخذ بي خطاي المرتبكة عبر دروب متصلّة تُفضي إلى بابٍ عريض وجدارٍ عالٍ تجثو خلفه أجداثٌ ترنو بصمتٍ موحشٍ كئيب إلى أيّما صوت يأتيها من عالمٍ متجافٍ خئون .. وهناك خلفَ شجرة السدر الوحيدة التي تحتويها المقبرة وبين القبور المستكينة يقبع قبرُها الصغير متهالكاً ، بائساً كأنّه قِيسَ بحذرٍ على جسدها الضئيل _ أتذكرُكِ يا ليلى وكأنّ السنوات المتراكمة التي ماعدتُ آبه لحسابها قد تلاشت ، وها أنا صرتُ رجلاً ، وصار لي زوجة وأولاد يسألونني بالحاحٍ عن ذكرياتي وأيامي الهاربة . فأعود وأرى وجهَكِ فتيّاً وعينيك تطفحان لهفةً للحياة ) .. آ .. كم كنتُ أسألُكِ عن سرِّ الشحوب الذي يكسو وجهَكِ ويتفاقم يوماً بعد آخر . كنتِ _ يا لحسرتي _ تخفينَ اجابتكِ بابتسامةٍ تحاولينَ نقعها بصبغة اللامبالاة ، ولم أكن أفقه كنهها آنذاك إلاّ حين تهاوت الشمس وأفلَ ضوءُ القمر ، وما تناهى إليَّ من أنَّكِ رحلتِ إلى مدينةٍ في الجنوب تزورين أقرباءَ لكِ يتحرّقونَ شوقاً ؛ ولم أدرِ أنّه سيكون غياباً أبديّاً ، ولم أدرِ إلاّ وأنا أتلقّى ورقةً صغيرةً موشّاة بالحنين سلّمتني إيّاها أختكِ الصغيرة ، كتبتِ فيها : " وداعاً .. وداعاً ؛ ربّما يطول غيابي فاعلَمْ أنَّ روحي ستبقى فاختةً مفجوعة تحطُّ على شجرة الزيتون الناهضة في فناء داركم لتغنّي لكِ أغنيات الشجن أو عصفورة تحط على نافذة أيامِكَ القادمة لتنشد لكَ ترانيم الوفاء . " . يومها بكيتُ يا ليلى ! بكيت بكلِّ عنفواني وصبري وضياعي . عزمتُ أن آخذَ قِطار الجنوب صوبَ المدن البعيدة والقرى المجهولة المتناثرة هناك بحثاً عنكِ . غير أنَّ هاتفاً خذيلاً جعلني أستكين ، متّخِذاً الذكرى عزاءً لي في غيابك ... رحتُ أنتظُرُكِ ! ( أنتظر يوماً سيأتي نلفُّ أزقّة السماوة عدواً ، نطوف في حواريها الوديعة . نقف على أعتاب جسرها العتيق . نلقي بأنفسنا في عرض الفرات ، ثم نعود تبللنا أمواه الحيوات الكامنة فيه مفعمين بالأريج المحتشد على ضفتيه ) . لكنكِ ما عُدتِ ... حملتكِ بقسوتها المُجحفة عرباتُ الظلمةِ الأبدية فخبا بريقُ عينيكِ وانطفأ ؛ ولم تشفع براءتُكِ وسنوات فتوتكِ اليافعة ... وها أنا أعدُّ على شاهدة القبر الرخامية أعوامَكِ الخمسة عشرة . يأخذني الحزن ، وتهرم سنواتي المتزاحمة . تشيخ وتتلاشى فأتيه في مفازات الرغبة والانتظار للقائنا السرمدي ، ولحظات الاحتضان السديمية .



    (3) حيرة الاسئلة


    حتّام تبقى السماءُ في فضاء ٍمكين رافضةً للغيومِ الزائرة ؟ .. وإلامَ تظلُّ هذه الربوع أسيرةَ فناءٍ خَمولٍ راجزٍ على سرّة الأرض الشسيعة ؟ .. مَن منّا لم يمسسَهُ لهيبُ التعاسةِ ، ولم تمزّقه نواجذُ الفقر ؟ .. الأيام التي صرفناها من عمر السنين المتناسلة على كواهلنا ما عاد لها طعمٌ نتذوق فيه شهدَ الأحاديث الجنائنية وخمائل الكلام الباعث على تفجير منابت الخيال . جملةُ الأسئلةِ الحيرى تنشظر فلا تُنتج غير حسرات ننثرها كقشٍّ جفيف في دفقةِ هواءٍ ريحي ينقل للآخرين ملحمةَ آهاتِنا الهائجة وجملةَ خطايانا الفائضة وركامَ أشعارِنا المتهالكة ... يقفُ عندها ويفوه بكلماتٍ يقولون عنها " رسالة " : أنتِ حبيبتي التي زرعتُ لها بطاحَ القلب جنينةً للمسرَّة . وندهتُ بها أنْ تعالي . يا قبلةَ البهاء وضحكةَ الطفل الرضيع ! أيتها الرازحة تحت ركام الغنَج المائي والدلال الفائر أُخرجي كي تصافحي أكفَّ شوقي ، وأعلميني بصفيف أخبارِك فقد فرّقتنا الأعوام .. أنتِ في روضِ بهائكِ ترفلين وأنا أعومُ في بحرِ غربةٍ قاهرة ضيَّعت لي أحلامي القادمة ، وبددت أعوامي الضجيجة بالأمل . أبعدتني عن أعشاشِ حلمي الجميل في بيتٍ أجمعُ ارتفاعاته كعصفورِ حنين يرتقي الألفة ويبحث عن الدفء الضائع ، المسروق . " ..
    يتوقف ...
    ثم يكتب : " إذا كنتِ نسيتِ جملةَ السنين التي دثَّرها غبارُ الأيام فآل بكِ إلى التوجُّه نحو مناهلِ صورٍ أخرى فلا أضنُك نسيتِ ضيقَ ذلك الزقاق الذي كان يجمعنا كملاكين رماهما الله في احد دروب البراءة الحييّة .. هل ما زال حرف " زاء " محفوراً على ساعدك ، والسهمُ الطاعن للقلب يقطرُ عسلاً من دم ٍ ؟ أم استحال قطعةَ جِبنٍ يقضمها القادم من غابات الاستحواذ ؛ ملكَكِ كلَّكِ دون استثناء فلم يترك لي منكِ غير باعث الحسرة والألم والترجي أن لا تنسيني . أنتِ التي حفرتي ( اتذكرين ؟! ) على ساعدي بوشم الإبرة الواخز التي كانت طعناتها المؤلمة تبعث نشوةً داخلي .. لكأنَّ المازوشيا تفعل فعلها بأعصابي فتدون حفرَكِ القائل ( لا تنساني يا زاء .. لا تنساني أرجوك ! .. هـ) .. والحقيقة لم يكن رجاءاً بل أمراً صرفتُ الأعوام للاحتفاظ به والإخلاص له .. وكم من عشيقةٍ دخلت معي في عِراك بحثاً عن كاتبةِ حروف الرجاء / الأمر بينما أحتفظ أنا بالسرِّ فيما أنتِ ترفلين على خمائل إرضاء القادم من غاباتِ الهيمنةِ ؛ ولم اسمع انكِ تشابكتِ وإيّاه في جدالٍ عن المحفورِ على ساعدكِ ؟ .. " آآآآ .
    حتّام يبقى يتألم ، جريحاً ؛ والزمن يسرقُ من بضاعة العمر خلاصة الأعوام الوردية تاركاً بقايا حُطام أيامٍ متهالكة بينما صرنا نخطو مثقلين بتهالكات ألاماني التي تعثرت فلم تؤول إلى التحققات مستحيلةً نوايا تثير سخرية الزمن وهو يقتات متعافياً على شهدِ أعمارنا اللاهثة نحو الانصراف . نلتقيه ؛ فيقرأ لنا ما كتبه لها : " يوم تواجَهنا ؛ تلك اللحظات المغيبية من ذلك الغروب الخريفي كنتُ أنا يصاحبني الهواء ، وأنت تخطين بجانبه يترجل منتشياً ، يصاحب هالة البهاء ويتبختر متباهياً بأنه يمتلك ملاكاً سرقه ممَّن هو أحقّ به .. كنتُ استحلتُ كتلةَ مرارةٍ وأسى وألمٍ وأنا انظر إليك رافلة ، وأنت تنظرين بملامح حيادية لا تشي بشيء .. آآآآآآآ "
    حتّام يبقى على أملٍ نحرته سكاكينُ الأيام ، ويستمر مصرّاً على أنها ستعود له ، ستأتيه وأن خطفتها أجنحة النسيان وأبعدتها عن شاطىء ذكراه وتذكره . كنا نقول له بما يشبه برقيات متتالية متتابعة : " السحابة التي انتظرتَ غيثَها هطلت على أرض بعيدة عنك ؛ فلا تسقط أسير الوهم والانتظار " , " سعادةُ المبتهجين على خمائل الايام مسروقةٌ من حزن الحيارى الهائمين على هدي السراب ! " وأيضا ، أيضاً كنّا نقول : " كان حلماً وقد انتهى ! " و " الانتظار وهم ! " رأيناها وايّاه يسبحان في بحر من الزهور ، فكيف يحنَُّ السعيد إلى مأتمٍ فرُّ منه ، فتعود إليك لهفةً .. أنت مجنون ! "
    وكانت الايام تعدو .. وحلمه بالعودة واللقاء ينضب .
    وكانت السماء ترسم تاريخاً لحياة جديدة في وقت صارت خطانا تثقل .
    ويوم التفتنا نبحث عن أنفاسه أخبرنا الفراغ أنّه كان جسداً بارداً ، مثلما أسرَّ لنا بأنَّ آخر كلمات كان يتفوّه بها هي : " سنلتقي ! .. أنا واثق سنلتقي ! لا محالة يا هناء ! " .




    السماوة 20/11/2005


    قصص قصيرة جداً



    تجاوزت الحلم .. الفراشات




    زيد الشهيد



    (1) انعتـاق


    كما السكارى كانا يتهاديان ؛ تعلوهما سماء مقمرة ويحتويهما سكون تناغيه مويجات تمس الشاطىء الرملي بحفيف رهيف .. مصابيح المنارة الشاهقة للمسجد المشرف على النهر تدلق أنواراً تترقرق في انسيابية الماء . يستنشقان رائحة الرمال التي غسلتها شمس النهار بطلقها الباهر ؛ وينعمان بأنسام رخية تمس وجهيهما قادمة من بساتين نائية تتاخم النهر .
    _ عجباً ؛ كيف أغريتني فجعلتني أنتزع نفسي من شدقين هائلين : أهلي والظلمة ؟!
    فضحك ؛ وجاءت ضحكته همساً :
    _ أنتِ التي دفعتني لأطلب إليكِ المجيء .
    هتفت باستغراب مفتَعَل :
    _ أنا ... ؟! أنا أيها المجنون ؟
    توقَّفَ يرمقها مستعيناً بضوء القمر :
    _ أتسمّين هيامي بك جنوناً ، يا جاحدة ؟
    _ وكيف يكون الجنون ، ونحن نسير في هذا الليل المسكون بالأشباح وخلوقات النهر الغامضة ؟
    صمتا قليلاً ...
    كان صمتهما تقديراً للحظات جذل تعيشها اللحظة .
    وكان صمته استنطاقاً لفرصةٍ عزمَ على الافشاء بها بعد أن تداولها في سرّهِ كثيراً .
    قال يسبقها في كلامٍ همَّت النطق به :
    _إذاَ سنخرج غداً إلى النور .. كفانا تخفّياً كأننا لصوص .
    امتدَّت كفُّهُ تلثم كفَّها فاشتبكت أصابعه مع أصابعها التي اعترتها ارتعاشة مفاجئة .. لم تفقه كلامه لأولِ وهلة فتوقفت ؛ ثم شهقنت :
    _ أجقّاً ما تقول ؟!
    _ نعم ! ... كانت اجابته الواثقة : ألا ترين أنَّ لقاءاتنا باتت كافية لنخلق عالمنا المتآلِف ؟
    تقارب جسداهما وتماسّا وهما يواصلان سيرهما في وقت كانت نظراتهما ترتفع مع ارتفاع قوام المنارة لتستقر على كتل المصابيح فتشتعل أنوار السعد في روحيهما ويعمدان إلى الصعود صوب الشارع المُضاء دون خشيةٍ _ هذه المرّة_ أو تردّد .


    15/1/1995




    (2) احتشاد

    مُذ غادرت البيت وتوجَّهت صوب دائرتها والنشوى تغرقها ، ونسيم الصباح يضمّخ وجهها .. الرؤى في جنبات مخيلتها تستحيل مشاهد رياض وفراديس راكضة باتجاه الأفق .. توالدت في رأسها كلمات تفوّهتها بعذوبةٍ ، فهمست في جذل : " ياه ! أهكذا يحس الشعراء وهم يطلقون القصائد ؟! "... السيارات المارقة على جانبها تبدو لها بؤراً من حيوات متنقلة . والرصيف الممتد أمام ناظريها شريطاً عشبياً يحثّها على الجري . الصغار المسرعون إلى مدارسهم تراهم عصافيرَ خضَّبتها الألوان الفائرة بالزهو .. ( آ.. محمود !! محمود ! ... كان الاسم يتردد على لسانها لمرّات لا تحصى ؛ لكأنها تحت هذيان متواصل ) .
    توقفا إلى جانبها سيّارة صالون صغيرة ؛ وسمعت من يناديها من الداخل . أدارت وجهها ؛ وجدتها زميلةً لها في العمل مع زوجها دعياها للصعود ، فابدت تشكّراً فيه رقّة وامتنان . تركاها وبريقٌ يسبح في بحر عينيها المؤتلقتين ، وابتسامة على وجهها تكافىء رحيق داخلها المحتشد . ( رنين الهاتف مساء الليلة الفائتة ما زال مستمراً في مسمعها ؛ والصوت القادم من بعيد تتكرَّر نبراته : فاتن ! فاتن ! .. آ ؛ لم تعد لدي القدرة على الابتعاد عنكِ . صرتُ كَمَن يبحث عن شيء أضاعه . العيون التي تحيطنى ترسم لمسات طلعتكِ ، والشفاه هامسة أسمعها تتنغَّم بإسمك .. أهيم كالممسوس بي حواري " السماوة " . أخرج من شارعٍ لأدخل آخر . جوّالاً أذهب إلى الفرات ؛ هناك حيث المصطبة التي تضمّنا في مواعيدنا المسائية . أجلس فأسمع مَن يسألني عنك . أتراني أسمع حقّاَ ؟! . لا أجيب . أنهض ؛ أهيمُ من جديد . ) .. مرقت من أمام بائع زهور فابتاعت باقةً ×\، ثم عاودت المسير .
    في دائرتها طالعت وجوه زيلاتها تشي بدهشة] تشوبها التساؤلات لمرأى الورد . دخلت غرفتها ؛ سحبت جارور منضدتها الاسفل فأظهرت دورقاً كانت الأوراق القديمة تتناثر في زواياه ( لقد أهملته منذ شهور يوم اكتشفت رئيس دائرتها يطيل النظر إليها ؛ يُسمِعُها كلمات مبطَّنة يُنهيها بأن يقول : هل تسمحين لو اقتربتُ لشم ورودك . كانت تمتعض وتستعد لإلقاء كلمات الرد العنيف لكنها تتمالك نفسها خشية فقدانها العمل . ) .. دعت العامل الذي أسرع فتناول الدورق وأعاده ممتلئاً بالماء ... فلّت بأناملها الدقيقة الخيط المطوِّق لأغصان الورد ، وراحت تدخلها غصنا فغصنا . حتى إذا فرغت منها استحال الدورق رزضاً مصغّراً جعل زميلاتها ينهضنَ فيطبعنَّ قبلاتِ على خدِّها الرقيق ، وهب بين خجلٍ ظاهر وبهجة دفينة تعبّر عن شكرها ؛ تفيض عيناها بدموعِ فرحٍ رأت من بين تدفّقها محمود ( هكذا رأت ) يدخل عليها ليشهد لحظة الاحتضان والتحليق في عسل الجذل ، والغرق اللذيذ .

    عمّان ايلول 1994



    ( 3 ) تعالـق

    يوم أمطرت السماءُ شذا النرجس كان هو متخِّدراً ، يعدو في كل اتجاه ؛ وكانت هي على جناحِ فراشة تطير ( غريباً بدا ذلك النهار ؛ وغريبةً تلك اللحظات المضمّخة بالدهشة والذهول ، تزحف ببطءِ سلحفاة .. بطءٌ ما عهداه ، ولم يوعَدا به . ذابت عند أقدامهما وتلاشت صغيرةً أمانٍ كانت عصيّةً عليهما في عالمهما البعيد الذي خلَّفاه وراءهما . تلك الأماني كانت لهما مثل أقمارٍ وكواكبَ يتعقّبانها علّهما يضفران بامساك واحدة . صار كلُّ شيء بأيديهما ؛ وصار كلُّ ما لم ينلاه هناك يسيراً هنا ) .. قالت له كالحالمة وعيناها السوداوان نصفا مغمضتين : " دعنا نذهب هناك ! " وأومأت إلى فيضِ ألوان طيفية متجانسة . فأجابها ؛ بل هتف صوتٌ من أعماقه : هيّا .. هيّا . فتهيأها ؛ فانطلقا ؛ فانتشيا في العدوِ .( اخترقا ذلك الجدار الشفيف ؛ وخرجا فأدركا مدناً ورياضاً وشطآن . دخلاها كالفاتحين أو كالمتلقّين دعوةً للذوبان . تجولا في شوارعَ حفّتها منابت الورود وظللَّتها وارفات الشجر . دلفا بيوتاً أشرعت أبوابها حالما تحسسَّت انفاسهما . جعلا يتفرجان ، يترجمان معالمَ أسبغت غرابتها دهشةً في دواخلهما اللهيفة . في مسامعهما عجَّت أصوات رخيمة متماوجة كأنها قادمة عبر تدفّقات مائية من جدران ناضحة ؛ ثم راحا يخرجان من بيتٍ لبيت ، ومن أرضٍ لأخرى ) حتى إذا أدركا مدّاً مائيّاً يتَّخذ شكل قلب نزلا إليه يستجمّان بطراوته ويذكيان في دواخلهما عالماً من الجذل والانتشاء . يغطسان ويعومان .. يغطسان ويعومان . وإذْ شعرا أنهما اغترفا الكثير الوفير من مناهل الحبور استلقيا على ظهريهما يتابعان زرقة السماء وتشظّي سهام الشمس الدافئة ، ويحاوران صدى روحيهما الطافيين على زرقة سماء باهرة دون أن يعلما سخونةً مفاجئة طفقت تعلو إليهما من جوفِ الماء .. تعلو وتشتد ؛ تشتد .. تشتد حتى تركت الأعماق تغلي ، ومياه السطح تتبخر فيكتوي الجسدان .. صرخت هي .. صرخت . رآها ترتفع مع البخار وتتفكك ثم تتلاشى . هتف بها ! هتف .. هتف ... وإذْ فتح عينيه أبصرها جالسة على حافة السرير ترنو إليه بعينين دامعتين ، وشفتين متيبستين . ومن فوق حبال الألم المشدودة إلى خاصرته سمعها تهمس له : آ.. يا حياتي ! لقد كنتَ تنعُم بنومٍ هادىء طوال الليل فما بالك الآن ؟! .. لم تسمع له ردّاً سوى أنها جوبِهت بفتاةٍ ترتدي البياض تقترب من السرير وبيدها حقنةً ، قائلة أنَّ مفعولها سيريحه لبعض الوقت
    مشكور اخوي الحربي

  3. #3
    مميز
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    makkah
    المشاركات
    1,925
    معدل تقييم المستوى
    162

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    ماشاء الله قصييييييييييييييييييييييي يييييييييييييييييييييرة مرررررررررررررره
    انحولت عيني وانا اقرا فيها
    يعطيك العافية على القصص
    وتسلم يدك على النقل

  4. #4
    المـدير الـعـام الصورة الرمزية DR AHLAIN
    تاريخ التسجيل
    Apr 2005
    الدولة
    Riyadh
    المشاركات
    8,663
    معدل تقييم المستوى
    3000

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...






    النمر







    شكلك تنسخها لك شهر ...... تارك المرة وجالس تنسخ !!!


    أقول رح لزوجتك وخلك عن النسخ ههههههههههههههههههههههههه هههههههههههه







    يعطيك العافية بس لاعمرك تعودها احولييييييييييييييييييييت




  5. #5
    رحمها الله وغفر لها
    تاريخ التسجيل
    Jan 2006
    المشاركات
    5,743
    معدل تقييم المستوى
    393

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    جـــــ ـ ـ ـ ــاري القراءة ....


  6. #6
    شخصية بارزة الصورة الرمزية المحيط الهادي
    تاريخ التسجيل
    Apr 2006
    المشاركات
    3,530
    معدل تقييم المستوى
    450

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    يبيلها يوم حتى أقراها


    يعطيك العافية أخوي
    °•.?.•°رســــالة لأخوتي وأخواتي الاعضاء °•.?.•°

    كل لحظة تجمعنا اليوم ...
    قد لا تتكرر غدا ...
    فلنبقي الحب والأخوة رباط ود لا يقطعه قول قاس ...
    أو ظن سيء ...
    أو استهتار جارح
    ولنبني هذا المنتدى على هذا الاساس

    ودمتم جميعا بحفظ الله ورعايته

    أخوكم/ المحيط الهادي
    [GLOW="FFFF00"]***********************[/GLOW]



  7. #7
    مميز الصورة الرمزية النمر
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    jeddah
    المشاركات
    1,269
    معدل تقييم المستوى
    137

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة nofa
    ماشاء الله قصييييييييييييييييييييييي يييييييييييييييييييييرة مرررررررررررررره
    انحولت عيني وانا اقرا فيها
    يعطيك العافية على القصص
    وتسلم يدك على النقل
    هلا وغلا اختي نوفا ....
    تسلمي على المرور
    تحياتي واحترامي...
    مشكور اخوي الحربي

  8. #8
    مميز الصورة الرمزية النمر
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    jeddah
    المشاركات
    1,269
    معدل تقييم المستوى
    137

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة DR AHLAIN





    النمر







    شكلك تنسخها لك شهر ...... تارك المرة وجالس تنسخ !!!


    أقول رح لزوجتك وخلك عن النسخ ههههههههههههههههههههههههه هههههههههههه







    يعطيك العافية بس لاعمرك تعودها احولييييييييييييييييييييت

    دكتور اهلين تصدق اشتاق للمنتدى مو عشان احبه لا والله محبتك اكثر واكثر عشان كذا انا احبك ((( قوية )) مصارحة على الخط الساخن

    ابشرك المرة حامل وهي مو فاضية لي شفت ازااااااااااااي


    حبيبي مشكور على المرور
    وربي انت الغالي ....

    تحياتي واحترامي وحبي ....
    مشكور اخوي الحربي

  9. #9
    مميز الصورة الرمزية النمر
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    jeddah
    المشاركات
    1,269
    معدل تقييم المستوى
    137

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة المحيط الهادي
    يبيلها يوم حتى أقراها


    يعطيك العافية أخوي

    مشكور على المرور اخوي ...

    تحياتي واحترامي ....
    مشكور اخوي الحربي

  10. #10
    مميز الصورة الرمزية !!عليان ريري!!
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    1,981
    معدل تقييم المستوى
    165

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    النمر

    الله يعطيك العافيه على مجهودك



    ولي عوده قريت شووي


    والله يعطيك الف عافيه


    يسلمووووووووووووووووووووو وووو على القصص

    عليان ريري


    :)
    لستـ مجبراً أنـ يفهمـ الآخرينـ منـ أنا
    فمنـ يمتلكـ مؤهلاتـ العقلـ , والقلبـ , والروحـ
    سأكونـ أمامهـ كالكتابـ المفتوحـ صباحاً أومساءً

  11. #11
    مميز الصورة الرمزية النمر
    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    jeddah
    المشاركات
    1,269
    معدل تقييم المستوى
    137

    رد: قصص قصيرة جداً ...... لزيد الشهيد ...

    هلا وغلا اخوي عليان ريري .................


    مشكور على المرور ............. عد جيثماشئت .......... فالصفحة وصاحبها تحت امرك ...........


    تحياتي واحترامي .............
    مشكور اخوي الحربي

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •