يتبع ...........
(10) قصص قصيرة جداً
فضاءات بدوية
زيد الشهيد
(1) افتضاضات
حفنةٌ من تدفّقات اليقين نتوسمها كيما ننفض عنّا غبارَ اشتعال الذهن ؛ ونعود مستحمّين بأمواه الرغبة في الحديث حيث سمعنا من َقبل ولم نصدّق .. سمعنا وكنّا مزحومين بدافع التحققّات . ذلك ما جعلنا نترك الناقات التي بعهدتِنا ونعدو . نتعثر بأذيال أثوابِنا ادراكاً لـ" مخيبر " الذي واصل الصياح كنداءٍ يتطلَّب العجلة .. ( على رخاء الرمل الرخو يتمثل انسيابُها . بنعومةٍ وانسلال ترسم حركةَ الانزلاق المتحلزن ، مُخلِّفةً أثراً شبيه الحركة .. لونُها يعكس صورةَ رملٍ يترجرج لولا نثار البقع البنيّة المغبرة ، بدءً من مثلث الرأس المتشامخ حتى نهايات الذنب المُدبَّج . ومخيبر يتابعها بعين المتفحّص عندما فوجىء بخروجه من حيث لا يفقه ( ما هذا الشيء ، المخلوق ؛ النزق ؟! ) . ربّما الأجمّة هي التي أفصحت عن ظهوره ؛ وربّما أحد الحيوز الغَورية ما دفع به بعدما حفّز شمّه وزرَقَهُُ بيقين الاحساس بوصول طريدةٍ هي بمثابة غنيمة رُغم عسر المهمّة .. من مكانه نصف الظليل همسَ مخيبر : هو " الور " ).. اعتلينا صفَّ التلال وانحدرنا متتبعين أثر الصوت المتقطّع بين الأجمّات : جسد مخيبر منكمش / العينان مستوفزتان / العصا متحفّزة كأنه هو مّن سيواجه المصير … حين سمع لغطَنا واقتراب لهاثنا توسَّع جسدُه كما لو أنّه استعار أعضاءً أخرى ولحماً جديداً ليستعيد حجمَه المعتاد . كفّه هي التي كلّمتنا عبر التلويح ، مشيرةً لنا بالتقرّب الحذِر.
جواره تركنا قاماتنا القصيرة تأخذ شكل التقرفص ، وعيوننا تمارس فعلَ التحديق .. رأيناه أولاً ( .. لماذا تستعير مخلوقات الصحراء لونَ الرمل ؟! ولماذا يتربص أحدُها بالآخر؟ .. متماهين بالأسئلة المتهافتة أبصرنا رأسَهُ التمساحي يرتفع . تحفّزت قدماه الأماميتان تثبان بأقصى انتصابهما فيما جسده الحرشفي الطويل يتقوّس ، وذنبُه المخروطي بصلابةٍ وقسوةٍ يعطي مهمّة السند للهيكل المتحفّز .. يغرز العينين الوحشيتين في قوام المنتصبة قبالته بنابيها المعقوفين .) ..
كان البعد بينهما لا يتعدّى المتر . وكنّا نعود إلى حديث الأمس ينسكب من أفواه جُلاّس المضيف _ أبائنا وأعمامنا _ عن سقوط الأفعى رُغمَ كيدِها وحذقِها ونفاذِ سمّها السريع لشلِّ مُجابهِها .. خاويةً تتهاوى بعدما تفقد سماءَ الكبرياء ؛ وتجد أنْ لا كوّة أمل تنفذ منها سوى كوّة الاستسلام بخنوع خانق ، مُميت ( القفزة الأولى حسرَت المسافةَ كثيراً فألفاها تغرز النابين في عنقه ؛ باثّةً اخضراراً سرعان ما توزّع الأعضاء لاغياً لون الرمل الذي يتَّصف به مظهره .)
ينتفض ! .. وبشيء من الوهن يتركها متحركاً صوبَ شجيرةِ شيحٍ خضراء . ومن مكانها تسمع الأفعى احتكاك حراشفه بالأوراق الخيطية فتدرك أنْ سيأتيها .. يعود إليها الانتصابُ . ترجع صبغةُ الرمال إلى جلده الخشن . تتّسع عيناها اندهاشاً . تخامِرُنا حدقات المتحدثين تسكبُ بريقاً ينمُّ عن حفاوةٍ باهرة لفعلٍ مكين وإصرارٍ لا تهشّمه الضربات الأولى حيث " الور " يأبى الاستسلام . والأفعى لمّا تزل بدافع الوجود الخَلقي الغريزي وطوق الصراع الذي وجدت حركتها محكومةً بسيطرته تصرُّ مجاهدةً على البقاء .
يتمظهر المشهد من جديد : تنغرز الأنياب ؛ يخْضر الكيان .. تهتز كتلة الشيح .. يعود الور . لكنَّ العتاد السُّمّي الخزين في النابين ينضب . يبقى انغرازهما في سُمك الحراشف لا طائلَ منه فتشرع قواطعُ الهيكل التمساحي تمزّق الأنسجةَ التي تروح تتخلّى عن توترها لهيمنةِ الارتخاء ) . نمسكُ خيطَ التحقّق من مثول المشهد باعث الفضول .
وفيما تتساقط أنظارُ العينين اليائستين على اخضرارِ الشجيرة الماثلة وينشغل المُنتصر بالتهام فريسته يأتينا صوتٌ من بعيد :
_ هي ذي أفعى أخرى !
_ هو ذا ورٌّ آخر !
ننهض ؛ وبقفزات فتوتنا الراهصة ننطلق لاستطلاعٍ قادم جديد حيث الآماد الصحراوية عالمنا الممهور بالإسرار .. كثبان ، وأغوار ، وفيوض ، وعواصف ، وسكون . ثم تأمل .. تأمل .. تأمل .
هكذا نقضي الأعوام / الأعوام سعياً لافتضاضات تنتظرنا خلل مسارب الغيب الضبابي الجهيل ؛ قطفاً متواصلا لثمار الدَّهَش ، واستحماماً حميماً رائقاً بأمواه الرغبة في الحديث وتبادل الحكايا .
( 2 ) رَشــَف
هالنا نداءُ الذي دعانا ، فاندفعنا دهشين / شغوفين / تائقين .. تركتنا أفياءُ الزقاق نرتمي أسفلَ دائرةِ شمس الضحى ؛ والصوتُ النادِهُ يسيلُ في قاروراتِ آذاننا مُحفِّزاً الأحداق على ممارسة الاتساع بغيةَ القنص . نتساءلُ بعين البحثِ ونواصل الاندفاع عطشى / جائعين ، نبتغي الرواءَ من حليبِ النوق المُرتجى . إنْ ارتوينا بارتِشافه سيمنحُ سيقاننا القوةَ في الجري _ سيشدُّ السواعدَ في الصراعِ ( هناك !! عند انتهاءِ الشارع / قُربَ الانعطافةِ الشمالية اقتنصت عيونُنا هياكلَ الناقات الوفيرات ، تخطو مخلِّفةً آثارَ أقدامها _ طبعات كالقلوب الملأى بالشهد _ ذلكم ما كنّا ننتظرُهُ كلّما بانت بواكيرُ الربيعِ بعد غيوثٍ هطّالة تستحمُ بها المفازات القصيّة الامتدادات ؛ وكلّما شهدت مدينتُنا الصغيرةُ أرتالَ الجِّمال مخترقةً الدروب بحداءات البدو وهمهماتهم ، خروجاً نحو فيوضِ الأمواه العشبية ) .
خفَفنا ...
جموحُ الرغبةِ يسحقُنا / ترهقنا خشيةُ الفشل ..
والبدويُّ المتقدِّم نوقهِ طفقَ يلتفت فيبصرُنا نعدو باتجاهه ... وبدلاً من أنْ نثير غرابتَهُ بلحاقنا إيّاه توقَّف ليشهد انحناءات قاماتنا القصيرة ، وركوعَنا عندَ طبعاتِ الأقدام .. نغرزُ خناصرَنا في قلبِ الأثر ، ونمتصُّ بابهاماتنا الحليب المفترض ؛ طعماً شهدياً أحسسناه يثخن داخل أفواهنا بلذاذات عذبة المذاق مع طبعِ النَّهَمِ المتفاقم في سحبه ، وسط ذهول البدوي هذه المرّة وغرابته ، مدافةً بالتساؤلات غائمة الإجابة .
الناسُ من على الأرصفة يحدّقون بالمشهد ، ويبتسمون ..
نحنُ من على الآثار القلبية نرتشف لذة الحليب ..
نرتشف .. نرتشف .. !
ولا نأبه ...
( 3 ) ذهول الغيب
على سكاكين الألم الدفين ودهاء المسالك المتعثرة كانت تتقدمه ؛ يجر الخطى خلفها جرّاً ثقيلاً . تكلمه بصوتٍ خفيض فلا يجيبها ( الحنجرة معطوبة ) .. البدوية التي كانت تمسح وجهه بنظراتها الحزينة تتمنى أن يفوه كما كان لكنها الآن تتأسى على تخاذله أمام كلاّبات شلِّ المقدرة ... فيوض الأحلام غدت مندثرة / بائدة . الروحُ منسحق ، والقلبُ معصور .. معصور جداً . ما فاد السَّمن المُداف بصفار بيض الصقر ( تقول ) ولا ملاعق العسل الأسود ، ولا حتى تمائم الرجل ( المري ) فهل بمقدور طبيب الحضر شفاؤك ؟!. من أين جاءتك هذه البلوى ! .. البدوي الذي هو زوجها لم يفعل شيئاً سوى إنه رمقها بعينين باهتتين ، وكان داخلُها يضجُّ بالحنين مستعيناً كتوقٍ ذاتي إلى زمن التبجح يوم جاء بالذئبين الضاريين بعدما عملا نوائحَ للاهلِ ولمضارب الأقرباء ،، يجرهما بحبلٍ وقد تعفّرا بالرمال مثقوبي الجسد ، وقتها عزم أبوها على منحِها إياه هبةً لفعلِ الرجولة الباعث على الزهو ... شاهدا الرجل المكلَّف بالمساعدة ينتظرهما عند باب بنايةٍ يرتقي سلَّمُها صُعَّداً نحو العيادة المقصودة .. هتف بهما : لقد تأخرتما ...
حين نزلَ الثلاثة ، وبيد المُرافقِ وصفةُ الدواءِ طبع الصمتُ ختمَهُ ، مُكبِّلا لسانَي الاثنين ؛ وكان الرجل البدوي ذاهلاً / غريقاً في شدهِ التفكير . وكانت البدويةُ تبكي من وراء حُجب الرؤية ..( هي ) ترى أفقَ الصحراء مُضبَّباً بدواكن الغَمامات ، وأعاصير الفقد . ( هو ) يتبين النهارَ مُحتدماً بالتلاشي / زاخراً بالقتامة ؛ فيما الصيدلي يكلّم حامل الوصفة : لا شيء فيها ! مهدئات فقط ؛ مهدئات لصرف الوقت ليس غير .. فيجيبهُ الرجل المرافق همساً : " أعرف ذلك .. أعرف . " . ثم يستدير ليرى إلى أصابع – السرطان – تنشب أظفارها المقيتة في الحنجرة التي عجزت صاغرةً عن النطق لرفيقة العمر ، واستكانت مُجبرةً لوحشيةِ المجهول .
( 4 ) نحت الأيام
لأيامٍ جهيدةٍ استمرَّ البدوي يبكي صقرَهُ الذي خذله بعدما جاءت الوقائعُ مُخيبةً للجميع .. يزرعُ نظراته عليه فيتأسى . يلمحه فتُثار لديه حمّى الشفقة ، ثم يأخذ الحنق حيّزه من الرحيلِ تفكيراً جرّاء ما سبَّبه من كلامٍ سيبقى رسيخَ ذاكرةِ أقرانه من البدو السائرين أو المستقرين ( .. كان جوّاً ملبداً بالخفايا ساعةَ تركَ الصقرَ ينطلقُ رشيقاً / خاطفاً ،، سهماً يلاحقُ طيرَ الحباري : مليئاً بالوثوق / مُفعماً بالغرور . يحسبُ الطريدةَ يسيرةً ، هيّنة – لطالما حققَّ فعلَ الصيدِ العسير ، وتساقطت الحباري والقطا ذليلةً / واهنة أدنى تقوس منقاره النافذ أو جافلةً بتأثير نشوب مخالبه في غضيض الأنسجة المشدودة ..) يبصر ريشه المتهرئ خيوطاً، والجلد المسلوخ حرقاً ، والعينين اللائبتين وهما تبوحان بانكسار مهين .
مُداهَماً بالايماضةِ السريعة يستذكر الرجلُ البدوي كيف إنقضَّ صقرُهُ فأخطأ ، وكيف هوى فخاب ؛ وكيف بصقهُ الطير المُرتعب برشقةِ ذرقه الدفاعية مُبللّةً الجسد / خارقةً الريش .. صارت ديمومةُ الخنوع تتبدّى إزاءه كابوساً مُرهقا . ما عاد يحتمل لهيبَ الفجيعة / ما عاد يجابِه عيونَ المستخفين .. ضراوةُ الألم لا معيق يكبحهما ، والأيام تنحتُ حكاياها وتمر ، لذا فضّل بقرارٍ حاسم جعلَ الكفِّ السمراء تمتد إلى الغمد الجلدي ، تجوس بأصابع متحفزة كتلةَ الحديد الساخن في قيظ هذه الوهدة الحارقة ... تستله الكف ثم ترتفع بطيئة / مُصوبة العين الواحدة السوداء نحو العينين المَهيضتين .. يتوقف العالم حوله / والامتداد الرملي يرتسم مدىً زاحفاً يذوّبُهُ الأفقُ الغائر .. أوعزَ للعين أنْ تطلق صرختها الراهبة دويّاً ، هاتكةً سكون العراء بقايا بصيص لعينين الشاحبتين – وإلى الأبد – ؛ صانعةً لوناً قانياً شرع يُعلِّم قطراته على صفرة الرمال بينما انفلتت أنفاس ارتياح من الصدر المَكلوم بحسرةِ التطلع المُعيب ، وخشيةِ العار المحكي بين دلال القهوة الساخنة / تحت السقوف الوبرية أو في فضاءات الخصومات والألسن النارية ....
( 11 ) قصص قصيرة جداً
كورنيش السماوة
زيد الشهيد
(1) لقاءات عابرة
نلتقيها على قارعة كورنيش السماوة الفتي دوماً ؛ نحن الرائحين الغادين ، الساعين لتصيّد ضحكات الفتيات اللائي ولجنَ أبوابَ المراهقة منذ أيام . عباءتُها المهفهفة على القوام _ الذي تُجاهد أن يكون متسامقاً _ تشي بفوضى دواخلها المبعثرة . خصلةٌ من شعر أحالته الأصباغ الكيميائية ناريّاً متصلباً تتراقص على وجهها ؛ وخصلة نافرة طيّرها الهواءُ الهارب من أقصى الشمال ، وأخرى تتحيَّن زمانَ الانفلات لتنطلق .. الفستان برّاق باهر يشدُّ جسدَها فيُفضي الضمورَ في اعضائها التي عفت عليها الأيام فتخلَّت عن ديمومةِ بقائها بضّةً حيوية مُلفتة للانتباه . ( يومها كنّا فتية ، وكانت هي ترفل ببهاء الشباب نلحظ العيون المشاكسة الوقِحة تلاحقها بنهمٍ شديد يصل حدَّ القظم من ألقها المشع ، وهي فراشةٌ راقصة تستعرض مفاتنَها . نقترب ابتغاء لفت نظرها لأيٍّ منّا .. العينان الصفراوان تضيقان ، والشفتان التمريتان تتشنّجان ، ومرآةُ الجبهة البيضاء تضيق فنستلم بحزنِ التلاميذ شهادةَ الفشل في الاقناع ، ونسمع الكلمات الساخرة تلطم آذاننا : " بعد عليَّ زعاطيط هذا الوكت ! " ، فننكفىء حاسرين .
المساحيقُ فاقعة اكتسحت وجهَها سعياً لاخفاء تجعّدات دقيقة شرعت تستبيح أسفل عينيها الطافيتين على غمارٍ من كحلٍ كثيف . والجبهةُ / المرآة استحالت شاشةً تعرّي وتجسّد طيّات الغضون التي من اليُسر عدّها .( إنها تتطلّع إلينا الآن . تستجدي نظراتنا ، وتُرهف السمع لمفردات علَّ أحداً يطلقها ببلاهةِ مَن يتعطّف على فقيرٍ مسكين . يقول أحدُنا : انظروا إليها ! لقد ظنَّت أنَّ صباحات الندى دائمة وعصافير الهوى ستطير أعلى رأسها تُسمِعُها السيمفونيات المنبعثة من الصدور المتلهّفة والقلوب العطشى .. ولكن !! ) هيهات ، تفوَّهت بها شفتا الزمن . إنَّ ما فات مات .
تجاوزناها ، فالتفتت . وسمعنا صوت الحقد : " شباب طائشون لا يكفّون النظر إلى بنات الناس . " .. لم نرُد ، فعيوننا كانت تستقبل الفاختات اليافعات اللاتي ولجنَ أبواب المراهقة منذ أيام وهنَّ يخطُرنَ بكل ألقهنَّ وعنفوانهنَّ فنعمد جذلين إلى اطلاق هتافات الاعجاب : سلاماً .. سلاماً مراهقات كورنيش السماوة .
( 2 ) حب مُعاصر
نثَّ المساءُ غبارَه المُعتم فبعثره وهجُ المحلاّت ومصابيحُ أعمدة الكورنيش الزئبقية . طفت على وجهها وهي خارجة توّاً من الزقاق مسحةُ ارتياحٍ ، وابتسمت قليلاً لأنسام النهر الباردة ؛ ( نعم ، لمحناها _ وكيفَ تفلّت منّا _ وهَب أنها فلتت فلنْ يُضيرنا شيء . بعد قليل سيأتي ليحكي لنا قصّةَ الفيلم من أوله إلى انتهائه .. خيالاتنا تتأجج ؛ ولا بدَّ هو الآن يُعيد ترتيب مكانٍ كان وإيّاها يلعبان فيه لعبة الجذل المثير ) . تتعثّر في مشيتها . لقد تأخرت عنده هذا اليوم دون أن تدري أنَّ لظى الجمر في أعماقنا يستعر مذيباً ما تبقّى من جبال الثلج ويحيلها مراجلَ ساخنة تنتظر مّن يُطفِئها .
يمر الوقت بطيئاً ؛ وتمر أسرابُ العباءات ثم تختفي . تلتهمها عطفات الأزقة واستدارات الشوارع . لا خطى تضرب قارعة الكورنيش سوى خطى المراهقين الخائبين ، وأناس أغلقوا دكاكينهم في السوق القريب .
ومن فم الزقاق أبصرناه قادماً ؛ منهكاً يجرُّ الأقدام :
_ يا عم ! كفاكَ خُيلاء . نحن نحترق وأنت تعوم على رغوة الخدر . أنتَ تعيش تفاصيل الواقع الصادح ونحنً نتعكّز على خيالاتنا البائسة .
_ لا .. لا.. صدّقوني لم أرها اليوم .
_ أنتَ تكذب . تؤاخذنا على رهزات الخيبة التي نفعلها في الظلام .. إلى هذا الحد وصلت ؟!
_ لماذا تشككّون بكلامي .
_ ولكنها خرجت قبل دقائق .
_ أنتم مجانين ؟!
_ بل أنتَ المجنون !
لعدّة أيامٍ كانت تدخل الزقاق وتخرج ؛ وهو ينتظر في عرينه الذي استحال وجراً مرفوضاً .
_ تعال معنا . انها لم تعُد لك . ألا تصدقنا ؟ .. هاهاها . اتركوه . دعونا نذهب إلى سينما سمير أميس .. هيّا ؛ فهناك ستكون رهزاتنا ضاريةً على ايقاع الروك وأفخذ مادونا الرخامية .
( 3 ) تعارف
_ إنّها لي !
ويقفز من بيننا فيما نظلُّ متسمرين على المصطبة التي تضمّنا . تلاحقُهُ عيوننا . يقترب منها ( نحلة تقطر عسلاً ، تتهادى برهافة عاطرة . تتطاير أذيال عباءتها في الهواء ، تخطفنا منه فنتركه في طيفِ ملاحقتِه لها . تمرُّ من أمامنا :
_ ما للنحل هذه الأيام يتباهى أكثر بشهده الرطيب !
يستدير وجهُ النحلة صوبنا . قليلاً ويرتفع الأنفُ شمماً ، ويعود القوام يتمايس في خطوه .. تجاوزناها . نصيح : " مَن ينهض إليها ؟ " .
_ لا .. لا . لن يستفيد أحد منها . هي من اللواتي يخطرنَ يومياً . لنعد إلى صاحبنا )..
نلمحهُ يكلّمها _ يمدُّ يداً إلى جيبه _ يسلّمها شيئاً .. صنّارته أمسكت .
جمعٌ من حمامات يقاربن الخمسة يقتحمنَ الطريق خارجات من معرضِ اكسسوارات يتضاحكنَ ، يتمايلنَ ؛ لا يلتفتنَ ... ما لنا جالسون ؟!
وننهض . كلٌّ يُحدد ما يشتهي :
_ هذه السمراء الطويلة لي .
_ وتلك التي تجاورها من حصّتي .
_ أنا أحبُّ البيضاء الربعة .
_ هي لكَ ، واترُك لي صاحبتَها .
_ والخامسة ؟
_ بقيت له . لعلّه يعود .
_ لن يعود . لقد ظفر بها .
رحنا ندنو .. دنونا منهُنَّ . يخطين بلا مبالاة . خطوات وتوقّفنَ . توقفنَ عند سيارةِ صالون سوداء هبط سائقُها العسكري فأُسقِط في يدنا . لا وقتَ للعودة . ومررنا نتظاهر بعدم الاكتراث .
_ غداً امتحان فيزياء عسير . علينا بذل جهدٍ وفير ... نطق أحدنا .
وعدنا بخيبة الضار...ن . يضحك أحدنا من الآخر .. نحسدُهُ ، فهو الذي فاز بكل شيء .
على المصطبة فوجئنا به جالساً :
_ أفتِنا يا مصباح علاء الدين .
_ " سليمة " .. اسمها سليمة ؛ لكنّي عجزت عن قراءة اسم أبيها . خذوا اقرأوا .
وانهالت العيون على قصاصة الورق تلتهمها !!! ... ثم انفجرنا ضاحكين .
_ ما بكم .. ملاعين ؟!
_ " سْليمة كرفتك " * .. يا خايب .. سليمة كرفتك . هذا ما كتبَته لك .
(*) يُشار في اللغة العامية العراقية على المنية بـ" سليمة " . وهي اهانةٌ تعني أتمنى أن تأخذك المنية .
( 4 ) مصيـدة
تخرج من محلٍّ لتدخلَ آخر .. تخرج من ثانٍ لتدخلَ ثالثاً . لا تكلُّ ولا تمَل فنتابعها مشدودين . نسينا أنَّ المراهقات كثرٌ يفِوقنَّها خفّةً ورهافة . لكنّ الهوى الذي يملأ خوافقَنا ، والنزوات المعتلجة في نفوسنا هي التي ألَّبت فينا رغبةَ الملاحقة .
اجتذبتنا الضربات المموسقة لكعبي حذائها العاليين على بلاطات الرصيف الملوّنة . تمايس الجسد المُترع بالغنَج تحت العباءة المتحررة أغرى الواحدَ منّا لأن يحظى بها فيلجم جنون الشباب المُستعر في جوفه .. تزدهي هي والمحلاّت المتراصفة بمعروضاتها وشلالات أنوارِها المنهمرة . خرجت مبتسمة / ضاحكة . دخلت محلاًّ أوسع بذات الابتسامة والضحكة المصطنعة . ( هم يستقبلونها بانفراجِ أساريرٍ وكلماتٍ ودود لوطرحناها عليها لأنكمشت جبهتها وتقطَّب حاجباها وأسمعتنا الذي لا يٌسمَع . هكذا هنَّ نزواتُهنَّ في ..... لماذا لا نحظى إلا بجفائهنَّ .. آه . من جميلات سماوتنا الغافية على جنبات الفرات . إنهُنَّ يحرُقنَ الأفئدة بلا رأفةٍ : سهام ورؤام ونجلاء ونادية وزينب وأحلام و...... أسراب من القطا يمور بهنَّ الطريق ، وطُرقات قلوبنا خالية . لا واحدة منهُنَّ تُجبر خواطرنا .. لا واحدة تصنع الخطوة الأولى .. تعالنَّ بلا وجل / بلا خشية .. تعالنَّ ستجدنَ أرواحنا رياضاً غنّاء . ارفلنَ كما يحلو لكُنَّ ...
وتذكّرناها ! . دخلت ولم تخرج . ) . طالَ مكوثُها هناك ؛ لننهض ونقترب ؛ لا يجب أن تفلت منّا .. كلاّ .. كلاّ .. كيف ندعها تفلت ؟ سنكون أغبياء لو حصل ذلك . لندخل المحل .
ودخلنـا !
تفحَّصنا المكان فلم نظفر إلاّ البائع عبوساً ، وبضاعة مبعثرة على عارضة البيع .. غيَّر الرجل من قسماته . رسم ابتسامةً طائرة عندما اتجهت أنظارنا إلى باب ثانوية مواربة على زقاقٍ فرعي اندفعنا عبرها فلم نواجه بغير العتمة وصمت الحيطان وأذرع الفراغ تلطمنا وتطيح بهيبة ذهولنا المُنتَهَك .
صنعاء
آذار 1995
قصص قصيرة جداً
زيد الشهيد
(1) مناجـاة
بين حين وحين تأخذ بي خطاي المرتبكة عبر دروب متصلّة تُفضي إلى بابٍ عريض وجدارٍ عالٍ تجثو خلفه أجداثٌ ترنو بصمتٍ موحشٍ كئيب إلى أيّما صوت يأتيها من عالمٍ متجافٍ خئون .. وهناك خلفَ شجرة السدر الوحيدة التي تحتويها المقبرة وبين القبور المستكينة يقبع قبرُها الصغير متهالكاً ، بائساً كأنّه قِيسَ بحذرٍ على جسدها الضئيل _ أتذكرُكِ يا ليلى وكأنّ السنوات المتراكمة التي ماعدتُ آبه لحسابها قد تلاشت ، وها أنا صرتُ رجلاً ، وصار لي زوجة وأولاد يسألونني بالحاحٍ عن ذكرياتي وأيامي الهاربة . فأعود وأرى وجهَكِ فتيّاً وعينيك تطفحان لهفةً للحياة ) .. آ .. كم كنتُ أسألُكِ عن سرِّ الشحوب الذي يكسو وجهَكِ ويتفاقم يوماً بعد آخر . كنتِ _ يا لحسرتي _ تخفينَ اجابتكِ بابتسامةٍ تحاولينَ نقعها بصبغة اللامبالاة ، ولم أكن أفقه كنهها آنذاك إلاّ حين تهاوت الشمس وأفلَ ضوءُ القمر ، وما تناهى إليَّ من أنَّكِ رحلتِ إلى مدينةٍ في الجنوب تزورين أقرباءَ لكِ يتحرّقونَ شوقاً ؛ ولم أدرِ أنّه سيكون غياباً أبديّاً ، ولم أدرِ إلاّ وأنا أتلقّى ورقةً صغيرةً موشّاة بالحنين سلّمتني إيّاها أختكِ الصغيرة ، كتبتِ فيها : " وداعاً .. وداعاً ؛ ربّما يطول غيابي فاعلَمْ أنَّ روحي ستبقى فاختةً مفجوعة تحطُّ على شجرة الزيتون الناهضة في فناء داركم لتغنّي لكِ أغنيات الشجن أو عصفورة تحط على نافذة أيامِكَ القادمة لتنشد لكَ ترانيم الوفاء . " . يومها بكيتُ يا ليلى ! بكيت بكلِّ عنفواني وصبري وضياعي . عزمتُ أن آخذَ قِطار الجنوب صوبَ المدن البعيدة والقرى المجهولة المتناثرة هناك بحثاً عنكِ . غير أنَّ هاتفاً خذيلاً جعلني أستكين ، متّخِذاً الذكرى عزاءً لي في غيابك ... رحتُ أنتظُرُكِ ! ( أنتظر يوماً سيأتي نلفُّ أزقّة السماوة عدواً ، نطوف في حواريها الوديعة . نقف على أعتاب جسرها العتيق . نلقي بأنفسنا في عرض الفرات ، ثم نعود تبللنا أمواه الحيوات الكامنة فيه مفعمين بالأريج المحتشد على ضفتيه ) . لكنكِ ما عُدتِ ... حملتكِ بقسوتها المُجحفة عرباتُ الظلمةِ الأبدية فخبا بريقُ عينيكِ وانطفأ ؛ ولم تشفع براءتُكِ وسنوات فتوتكِ اليافعة ... وها أنا أعدُّ على شاهدة القبر الرخامية أعوامَكِ الخمسة عشرة . يأخذني الحزن ، وتهرم سنواتي المتزاحمة . تشيخ وتتلاشى فأتيه في مفازات الرغبة والانتظار للقائنا السرمدي ، ولحظات الاحتضان السديمية .
( 2 ) نظريتي التي أُجاهر
يتكوَّرون في زويا المقهى ‘ لائذين بالصمت والنظرات الغريبة التي تستقرىء أخطاراً مداهمة ليس لها أي وجود في الواقع .. وإذْ يٌلقى السلام من زبائنَ يوميين يتململون هم في أماكنهم ... السيد ياسر صاحب المقهى يتعطّف عليهم بابتسامات برقية ونظرات خاطفة تزرقهم بالأمان وتغذّيهم بطمأنينة بقائهم في ملاذاتهم ؛ نائينَ عن تهديدات العامل الذي يجد فيهم وجوهاً بغيضة وفألاً سيئاً لزمنه القادم .
أنا أقترب منهم بلباسي المهندم وشعري المصفف وكتبي التي أنضدها جوارهم ، فيرسمون تباشير الامتعاض ( يشنّفون أنوفهم ، ويزمّون شفاههم ) ؛ وحين أقول أنا صديق لكم فلا تتعصّبوا . لا أجد منهم ردّاً وديّاً ؛ بل نظرات تقطر تشككّاً واستنجاد موجهة للسيد ياسر كي ينقذهم من فضولي المنفر لهم ، وثقل جلوسي الغريب عليهم . ذلك يجعلني أتأسّى على نفسي . أُصمها بالخيبة والانكفاء ؛ فأنا أدّعي الثقافة وحسن البصيرة وقوّة الاقناع _ أحمل كتب روسو وآدلر وديكنز أنّى سرت _ نظريتي التي أجاهر تقول : أنَّ من المحتمل تحجيم سلوكيات الأفراد الاجتماعية السالبة وامكانية احالتها إلى الإيجاب أوتحييدها على الأقل _ وها أنا على المحك الظاهر ؛ وها هم أضعاف الأفراد وأهزّهم ارادة كما أحسب .
خرجت من المقهى ضجراً متجهماً مودعاً من قبل السيد ياسر بجميل الكلام ؛ ومنهم بنظرات الترفّع . وأنا أخطو صوب زقاق فرعي ألملم شتات الأفكار المتضاربة قفز إلى رأسي رأي مفاده : أنَّ المحاولات المتكررة المغموسة بالصبر مَسلمة أُولى إلى النجاح . وهكذا قررت اعادة المحاولة ، فهؤلاء يطفون على سطح البساطة والضعة ومن اليسر البدء بهم لانتاج بحثي .
في اليوم التالي كان وجه السيد ياسر أكثرَ بشاشةً وهو يستقبلني . ربّما حسبني سأصبح زبوناً مترددّاً إلى مقهاه فزاد من الترحاب . رأيتُ وجوههَم منقبضة . انكمشت عيونهم حالما تملّوا طلعتي . تركتُ الذين جالستهم البارحة واقتربت من آخرين يشبهونهم . حييَّتم فأتاني الرد يزخر بالأمان . وما أن جلست وكنتُ على وشك التفوّه إليهم حتى أحنى أحدهم رأسه هامساً بكلَّ ثقةٍ في أذني :
_ عُد إلى كتبك ، يا استاذ لئلاّ نُفسد أفكارك ! .. عُد نرجوك ؛ فقد حاول الكثيرون قبلك وما أفلحوا ، فهذا عالمٌ ارتضيناه لأنفسنا عن يقين ؛ وكفى .
تموز / 1994 _ السماوة
( 3 ) أولاد متمادون
لا يدري لماذا كلّما طالبه أولاده الصغار أو تمادوا في طلب أشياء تذكّر تلك السنة التي قضاها مُعلماً في مدرسةٍ ريفية . كانت وجوهُ تلامذتِه الصغار بملامح تختلف عن التي عند أولاده . فالصفرةُ لون تنبت رياح سيادتها على تلك الجباه والخدود والاعناق . والزرقةُ بتجبّرٍ وسلطان تكسو الشفاه ؛ لكنَّ القناعة أثمن ما يملكون . لا يٌظهرون الجوعَ تضوُّراً ، ولا الضجرَ احتجاجاً . يأتون بلهفةٍ لا يجدها عند أغلب صغار مدينته . ابتسامةٌ مقتضبة وتحيةٌ صباحية تقطرُ خجلاً ، وأكياسُ قماش معلّقة على الأكتاف ، تحتضن كتيبات حرصوا على حفظها وسلامتها ... ويوم يشعر بميل إلى تعذيب وكبح جماح روحه التي يظنّها تمادت كثيراً في حريتها وغرورها يروح يقف في مقدمة الصف مقتطعاً من الدرس وقتاً ليبتدىء رحلةَ الأسئلة مع تلامذته تتبّعاً : ماذا تناولت من فطور ؟ وماذا تعشّيتَ البارحة ؟
وتأتيه الردود تقطر براءةً من أفواه صادقة في بوحها لا تعرف الرياء ، ولا تتقصّد استدرار العطف :
_ لبن ، يا استاذ .
_ وأنت ؟
_ خبيزة شعير .
_ وأنت ؟
_ زبدة وخبيزة .
_ وأنت ؟
_ خبيزة وشاي ؟
_ وأنت ؟
_ شاي فقط ؟
_ وأنت ؟
_ لم أتعشَّ ، لكنني جلبتُ معي خبيزة .
وإلى هنا يحس كأنّ جداراً يتهدّم في وجدانه ، وصورة كبرياء انسانية تتمزَّق وتتناثر نتفاً ؛ وقلباً يذوب ويتلاشى ، فيصرخ في داخله : كفى ! .. كفى !
ويلتفت إلى أولاده المتمادين هاتفاً باستجداء : لا تتبطّروا يا أكبادي لئلاّ تنقلب !
السماوة / 1993
تَماديــات
( 1 ) تمادي أول
ما كان حلماً ذلك الذي تجلّى ، ما كان رؤيا ؛ لأنَّ الذي مرَّ صارَ من عداد أسئلة تهافتت باحثة عن ردودٍ تشعل صقيع التبلّد ، وترمي على تلال الماء مراسيم التفتت . هذا إذا أقرّت ( لكم ، ولم تُقر لي ) هي رغبة التواصل وخرجت من فيافي الصمت المميت ؛ حيث الأنامل الشمعية تطبع تاريخها لهباً من انسحاق وتمادي يغذّي الروح بالتآكل عندما قالت لها النصائح قفي أيتها الفراشة اللاهثة خلف بيارق الاشتعال .. تمهّلي بلهفتكِ يا راكضة باتجاه شغف القتل اللذيذ .. يا شهد الطلع / أيتها الرهيفة المتلفّعة عباءة المساحيق الشفاهية .. رويدك يا خارجة من مضارب المازوش ....
ما أبِهَتْ ..!!
لن تأبه ...!!
ولم تعرف لنداءات التحذير ترجمةً ..!!!
انطلقت غارقةً /عائمة . وظلّت متواريةً / هائمة ... تنده بالنور المتذبذب قدّامها أنْ يمارس التعثّر كي تلحق به وتنسفح على دكته ؛ وكان هو لا يُعير همّاً لرجاءاتها السحيقة ، لأنَّ الفراشات ، الفراشات كثرٌ ؛ والمُحترقات ، المُحترقات متهافتات تترى ... يواصل السير حثيثاً ، ممتشقاً سيفَ الكبرياء السادي ، رافلاً على أديمِ الجراح الفاغرة لطعيناتٍ توسدنَ روابي الخديعة والتحفنَ الذكريات الرمادية ، ساعيات بعيونِ الندم لتلقّي نداءات الإنقاذ ؛ ولكنْ لا صوت للبحّة / لا مسامع للتشفّي ... وكانت هي تزرقُ ساقيها برغبةِ الجري الهوائي ، ناشرةً / واهبةً جناحيها لتطويق عنقِهِ النوراني النيّر ، وحيازة عطر الغواية حصيلة اللهب ، لا رماد الاحتراق آن مددتُ لها أصابعي ترسمُ برزخاً / تمنع انتحاراً . فما الذي حصل ؟
قُضمت الأصابع ؛ وتفاقمَ عنادُها . ازدادت الهمهمة وتكرّست جحافلُ التحدّيات . يومها توقَّف اللهب أراهُ / أراها من بعيد . استدار فارداً ذراعيه لأجنحتها الرحيقية وأنفاسها اللاهثة ، وعينيها الممتلئتين شوقاً وانبهاراً بوهجهِ الساطع الذي سرعان ما بثَّ سحرَه الحارق ، مُطلقاً صوتاً كالشواء / مستأنساً لارتطام رخيم عند قدميه الباردتين .. هل اتّعضَت ؟! ....
26/ 11/2003
( 2 ) تمادي ثاني
إتَّخذت كتفَ النهر وجهةً ؛ وانحدرت خُطاها تلتهم انسراح الدرب .. ثمَّةَ السكونُ يُناغي خَدَر الماء ؛ وغفوةُ النهر تُحاكي همودَ شجرة سدر ، جامعةً حلكةَ الليل كي ما تحُقِّق رقاداً رَغداً لعصافير أغصانها المتعانقة فيما دبَّ من بعيد / من ضياع الأفق في لُجَّة البساتين المُدلَّهِمّة بالعَتَم نسيمُ هواءٍ مرَّ على وجه الماء فجاء بالطراوةِ والندى يمسّان وجهها .
قالت لها الوحدةُ : خُذي من جسدي ثوباً لمشاعرك ؛ وفصِّلي من انهتاكي صوراً لماضيك .. تذكَّري ذلك الذي سحقتِهِ بكبرياء زيفِك المُبَهرَج ، وأطلقتِ عليه رصاصَ هجرِك ، ثم أرديتِهِ قتيلَ اللواعج / شهيدَ الانتظار .
وقفَتْ كتمثالٍ يقتني شبحاً ؛ ونطقت كلاماً يحترق ألما .. تقول : تعالَ من بين ثنايا الماء الذي ابتلعَكَ فأغرقك !.. أُخرجْ من هَياج اليمِّ لأُلقي عليك اعترافات حُزني ، وسوناتات لوعتي ،، ثم تهافتات ندمي ، لأنَّكَ الأسمى لدي بعد انكفاءات أعوامي المهدورة على صخرة التمادي . أنا لكَ الآن ؛ فكُنْ لي بعد الآن .. أجيئُكَ هفواً ! فقُلْ ها قد جِئتُ احتضانا . رُحماك ! مدَّ لي كفَّ السماحةِ لأبكي عند ناظريك طفلةً فقدَت أفانين اللعب الخضيب ؛ وخذني كافرةً باقانيم غرور أرعن .
من خلفِها / من جانبيها / من فضاءات دواخلها / من كلِّ الأصقاع تناهى إليها دبيبٌ هادرٌ يفتضُّ خَدرَ الرمل ويستهينُ برعشة الليل السَّكْين . ودَنت منها جيوشُ عقاربَ رعبٍ تبغي إرسال زُعاف سمومها إلى قلعةِ قلبها الخافق / الدفيق فهمّت بإطلاقِ آهة استغاثة أو صرخة تشفّع عندما انفلقت صفحةُ الماء وقال لها فمُ النهر : هلمّي ...
لاهثةً اندفعت ، تخوض في غمار الشوق ، غائصةً إثرَ نداء الأعماق ...
هناك !
هنالك ! .. كان بانتظارها : ثغرٌ باسمٌ ؛ ووجهٌ صبوحٌ ، صبوح !!
قالت : آآآآ .. خذني !
و..................... !!
قصة قصيرة
فـلاش بــاك
زيد الشهيد
تفتّت الغيمة البيضاء لحظة أطال النظر في تواليات الريح وهي ترسم بواكير مقدم الخريف ... لم يكن يدرك فحوى الأمر عندما داهمته فكرةُ تجسيد حاول كثيراً جعله من عِداد اللا ضرورة لوصفه / اللا قبول لعرضه .. قالت له : سيجعلك البعدُ عن الديار تكره تفاصيل الحاضر ، وسيدفعك إلى العدو كالمعتوه خلف سرابات الذكرى التي ستتفاقم رويداً ، رويداً فتخسر بذلك تجارة الحاضر ورصيد الماضي ، وسترى إلى مستقبل تتراغى ضبابيته تماماً كما هو كل فرد من أقرانك أو أندادك آثر الضياع وصولاً إلى القطب المميت . ( تناثر جسدُ الغيمة وتفككَّت الأعضاء . تشكّلت جرّاءها أبعادٌ هلامية لا تمت لفحوى الأصل ... رأى قرناً يحاور ذيلاً ، ولبوة تفقد بطناً فيستحيل خطماً لخنزير ... رأى جذع شجرة يتهاوى بآلية بليدة ، ورموشاً بشرية تسيل كالدمع الضنين .) بحثَ عن قلمٍ دسّهُ في جيب بنطاله ليجعله سهماً يفتك بجسد أية فكرة ستداهمه . ( إنّه يتوقَّع هجوم الأفكار الدائم ، ويتحسّب للغواية المنبثقة كإصبع سحري من سيح رملي . ) .
قالت له : سأكتبك قصّة أو أدوّنك قصيدة .. سأرسمُك معبداً مهما أبديت التنبؤ وتوقعتَ الذي سيحدث أو اللا يحدث .. سانحتك على قراطيس الذاكرة ،،، وسأطبعك على جباه الفجر . لا بدَّ أن أخلِّدك ، قالت ،،، عندما تشوِّشت إزاءه شذرية السماء ؛ وطفقت أشرعة الريح تبعثر حيويتها تمزيقاً لصفاء الفضاء الفسيح ... تذكِّر خريفيات بلدانٍ شمالية جابها زمناً مقارنةً بوجوده الماثل في واحة هي نقطة خضراء في مدٍّ رملي مفازاتي بلا حدود ... تذكَّر أنسامَ بليلة كانت تحمل أرائج لحاءات الشجر العملاق ، وقوامات الأغصان المتعانقة للغابات الناهضة توالياً ... عادت إليه صورة الأوراق الزاحفة بتحريكٍ حفيف على الخمائل الخضر ؛ عارضةً صفرة ذهبية كنبوءةٍ لا تقبل التردد بفصلٍ سيأتي ... تذكّر ساعات الحالمين وأنظار السائرين على أديم الرومانس ، هنالك في جلساته المتكررة على المصاطب الوفيرة ، متابعاً حركة الناس الرافلين بحبورٍ جنائني أو راحلاً يترجم فحوى المقارنة بين واقعٍ وآخر ... تذكّر " بوشكين " ومعشوقته " ناتاليا كونتشاروفا " التي غدت زوجةً قادته تحت تأثير حسد الآخرين إلى فم الموت ... تمتم أشعاراً من " كيتس " الحالم ، الرافض لجيوش " فايروسات السل " تفتك برئتيه الغضّتين . وحين مرَّ على " ديستوفسكي " تكدّر .. كان وإيّاه يتقاسمان " الصرع " ؛ يهبطان وادي الآلام ويشربان من منهل الوعي المرير ... تذكّر " مايكوفسكي " وقراره في وضع حدٍّ لتجني وإيقاف خيول الاحترافات الصاهلة في ميدان روحه المُعذَّب ، فانتفضت في رأسه فكرة سوداوية تقرِّبُهُ إلى اعتقاد أنّه مُنتحر في هذه الواحة وإنْ بدا متعافياً ،،، ميّتاً وإن أظهر نكراناً للهزيمة .
آثر النهوض ، تاركاً مساحةً سطحية لتلٍّ اعتاد اعتباره منبراً لتفريغ الهموم ، ورمياً للحظات الشقاء . نهض مشفوعاً بهمسٍ يتعقَّبه .. عرفه : صوتها يمارس المناجاة ، ويلاحقه بهراوات التحذير مستلَّة من طوايا الحِكَم .. لم يلتفت ؛؛ فضولُها استحال ظلاًّ يلتصق به . ، وقلمه صار يخلق وعوداً تشي بالاحتفاظ / تسعى للتحقيق . يدري أنَّ النهار يطول . والأطول دهاءً لسان الليل يخاصمه بالقلق ، ويأتي إليه بعربات الهموم ، وكوابيس ، والتطيّر .
في غرفته المسكونة بالصمت فوجىء بها تجلس عند منضدته ... وتكتب :
" من مكاني النائي ؛؛؛ من ساعات تفكّري أنتقي كلماتك فأعزو حزني لتهالكات كبريائك ؛ ذلك الكبرياء المتخفّي بين ثنايا رداء التكلّف ..... هل وصلتكَ تحايا الثبات ؟! ... ألم تستعن بجَلَد المسحوقين بالآراء الكبيرة ؛ الناشدين رياض الشمس سنرفل على ثراها أنا وأنت معاً؛ ألم ؟! .. " .
عندما مدَّت أصابعَ أنحلها الارتعاش كي تتحسس وجهها غزته غرابة الموقف / باغتته الورقة الزرقاء تضمُّ أسطرَ ، ولم تكن _ هي _ هناك ... كانَ الكرسي فارغاً ؛ فقط استقرّت عيناه على طابع يحتل زاويةً من مظروف دوِّن في وسطه اسمُ بلده البعيد ، وصدى أنفاسٍ هي من بقايا ألقٍ سحيق ....
قصص قصيرة
من دكنة الغسق .. من حوارية الذاكرة
زيد الشهيد
(1) دمـاءُ مِنجل خَثِـرة
لاحَ لها صفيفُ النخيل بدكنة تشبه حزاماً مغبرَّاً ؛ وبدت معالم النهر البعيد كأفعى قاتمة تلوذ مدفونة في غمرة رمال أدكن ؛ والقرية لا يبان منها سوى بعض بصيص متناثر بين مصابيح كابية أرهقها الضباب الذي تعالى قبل وقت .. ما كان عليها الانتظار حتى تنجلي عتمة الغلس ( هكذا حدست ! ) بل حثّت الخطى كما لو كانت تسعى لتحقيقِ عهدِ ضمنت إنجازَهُ ... رأيناها من على عتبة سلم النزول إلى النهر ( وكنا نجلس نطالع همود السلاحف على خثرة الرمل الندي بانتظار قدومِها لنفجِّر في وجهِها هاجسَ الخشيةِ عليها ) تبدو كهالةِ نورٍ تتحرك باتجاهِنا ؛ وما كان أحدُنا ليرضى عن صمتٍ وسكونٍ وعدمِ تحرُكٍ لولا لامبالاتها للخطر الذي سينبثق في أيّما لحظةٍ ، ومن أيةِ ثغرةٍ مكانية تخفي وراءها حشداَ من الدهاءات المرسومة على الوجوه الذئبية التي تترصدها ( كان لفتنةِ قوامها وخفّةِ خَطوها عذرٌ للآخرين في حبْكِ الخيالات وبرمجة المكائد لنيلها والسعي إلى استحالتها واقعاً يتمثل كأحد ممتلكات ألانا المتنرجسة ) ؛ وكانت ( هي ) تمتلك ثقةً تجعلها تتحسَّب للمفاجىء فتعلن هيمنتها وسيطرتها واستحواذها على مراءاته ومخططاته الزائفة . وكنّا ( نحن ) نرقُبُ هذا التقدم الواثق مسحوقين بصدى أقدامِ عزمِها على المضي . لا نريدها أن تواصلِ السير لأنهم كانوا يرابطون ما وراء سور النهر لينقضوا لحظة اقترابها فينزِلون بجمالها وعفّتها والكبرياء هتكاً ( لقد صّدتهم مراراً وهي تُعلن أنها تساويهم بالكلاب التي تنبح بمرورِ طريقها ، وأسمعتهم ثقيلَ الكلام وخزي القول فلم يألوا جُهداً في التحمّل والنسيان ، ثم التخطيط بما يُرهق قدرتَها فيدفع سدودَ تحدّيها إلى الانهيار ما يضطرّها للجوء إليهم في ساعةَ ندمٍ وإعلان تخاذل . ) .
تحركت وقد انبرى بكفها المنجل يتوثب لموقف ستنهجه وترد على تبعاته بضربةٍ باشطة تبتر عنقَ الكيد ثم بأخرى تطيح بهيبة( تلال المكائد ) ؛ وما كنّا نرى فيها غير المنتصرة دائماً . أمّا الآن فللخوف عليها والخشية من أن يمسَّها سوءُ فِعالٍ هو ما جعلنا نفكر بالنهوض من حافة سلَّم النهر والتوجّه إليها لمنعها من التقدّم وكشف الفخ الذي يُنصَب لها بإمعان . ( الزوج الذي هاجر لبلدانٍ نائية وخذلها بكت عليه ولأجله دموعاً من دم ، كما هشَّمت عند تخوم رغبة انتظارِها لعودته أحلى الأعوام واشذاها ولم تعلن انه غدَرَها فمارس الجحودَ لوفائها .. وكانت أنْ بقيت وفيةً تنتظر ندمه ، والإخوان الذين اتكأت على جدار كبريائهم في ملمّاتها تبعثروا في أصقاع ألدنا بحثاً عن عيشٍ يقيهم ملوحة الأرض الزاحفة على هناء أحلامهم ويبدو أنهم آثروا العيش لصفاء بالٍ هناك فمارسوا فعل النسيان ولم يعودوا يتذكرونها ) .. في البيت تركت وراءها ولدين وبنتاً يغطون في نوم بعدما أغدقت عليهم قبلاتها الحميمية ونظراتها الملائكية ، وأقسمت أن تُنشئهم على خصالٍ قلّما يؤديها الرجال من الآباء . وكنا على وشك أن ننهض ونعترض طريقَها وهي تقترب أمتاراً عندما همست على مبعدة خطوة بصوتِ الذي يملك شيئاً ليقوله خِلسةً بحيث لا يسمعه احدٌ غيرنا ، فائهةً :" اعرف ما تبغون قوله فلا تنهضوا فتفشلوا مخططي "
واستمرت في خطوها بلا توقف ....
( وكنا نريد أن نتقافز لنخبرها بخططهم لنفشلها .. كنا نريد أنْ نقول لها أنَّ احدنا جاءَ بالأمس ليسرَّ لنا باجتماعٍ يعقدونه لاعتراض سبيلِها والهجوم عليها في هذا الغَلَس لينزلوا بها فتكاً وتجريحاً وليتركوها عبرةً لحاملي الكبرياء المَصون ) .
الغَلَسُ ينثر رذاذَ عتمتهِ وصفاء لحظاته ويوهمنا بانَّ الليل لن ينتهي ، وأن المكيدة ستتحقق وفق مرسومهم لا طبقاً لمرسومها ، وأننا نتحنَّط في ديجور ليلةِ حسبناها إمّا ستكون تأريخاً لانتصارِ الغدر أو حدّاً فاصلاً لانهزاميته .
استمرّت تتقدّم والعيونُ الرابضة هناك خلف ستار الدهاء شرعت تبرقُ ببهجةٍ تُماشي الموقفَ والمخططَ المرسوم فيما عويننا تدفَّقت تنضحُ خوفاً ، وشفاهُنا تُفجِّر ارتعاشاً وأناملُنا تتشبثُ بما يَبرز من حافّات الدرب الذي نجلس عنده ؛ والنهرُ يدرك عُظمَ الخطيئةِ التي ستُرتَكب لكنَّه عاجزٌ عن الكلام ؛ والعتمةُ لا تريد لوشاحِها أن ينجلي .. استمرت وكانت على بُعدِ خطواتٍ ليس غير عندما انتفضت جملةُ قاماتٍ دكينة منتصبةً كما لو كانت أشباحاً تبرز من جوفِ غورٍ عتيم .
دنت منها .. !
أحاطت بها .. !
كانت ساعيةً لتضييق الدائرة والشروع بافتراسها وانتهاك مقدرتها عندما برقَ في عمقِ الظُلمةِ بريقٌ قوسي ؛ راح يضرب في كلِّ اتجاه ( ورحنا نسمع دربكةً وهمهماتٍ تعقبُها آهات ، ثم سقوطاً لأجسام تُصدر أصواتُ ارتطامها صدىً متوالياً ، ما لبث أنْ توقَّفَ مُعيداً لليل صمته وسكونه ) .. لم نبصرها تعود .. حسبناها قُتلت بمختلف الطعنات ومُزِّقت من خناجرَ شتى . بكت دواخلُنا ولم نكن قادرين على النهوض والتحرّي والوقوف على خاتمةِ الصورة التي بدت لنا كالكابوس المرهق الثقيل . خشينا من غيلةٍ قد تكون كميناً ثانياً يكمِّل متوالية الكمين الأول فننتهي إلى مقتلٍ بصورةٍ كارثية ستبكيه القرية بكل بيوتها ودروبها فانسحبنا مرتعبين دون أن ندري أنَّ حضورَ الصباح كشفَ لعيون القرية وأناسِها خمسةَ أجسادٍ ممزَّقة يعفِّرُها التراب ؛ وكشف للولدين والبنت الذين نهضوا من نومهم على أمٍّ ترقدُ بنومٍ هانىءٍ عميق على غيرِ عادتها ، ومنجلٍ لطَّخت بريقَه اللاصف غزارةُ دماءٍ سوداء خَثِرة .
السماوة 1/11/2005
(2) مناجـاة
بين حين وحين تأخذ بي خطاي المرتبكة عبر دروب متصلّة تُفضي إلى بابٍ عريض وجدارٍ عالٍ تجثو خلفه أجداثٌ ترنو بصمتٍ موحشٍ كئيب إلى أيّما صوت يأتيها من عالمٍ متجافٍ خئون .. وهناك خلفَ شجرة السدر الوحيدة التي تحتويها المقبرة وبين القبور المستكينة يقبع قبرُها الصغير متهالكاً ، بائساً كأنّه قِيسَ بحذرٍ على جسدها الضئيل _ أتذكرُكِ يا ليلى وكأنّ السنوات المتراكمة التي ماعدتُ آبه لحسابها قد تلاشت ، وها أنا صرتُ رجلاً ، وصار لي زوجة وأولاد يسألونني بالحاحٍ عن ذكرياتي وأيامي الهاربة . فأعود وأرى وجهَكِ فتيّاً وعينيك تطفحان لهفةً للحياة ) .. آ .. كم كنتُ أسألُكِ عن سرِّ الشحوب الذي يكسو وجهَكِ ويتفاقم يوماً بعد آخر . كنتِ _ يا لحسرتي _ تخفينَ اجابتكِ بابتسامةٍ تحاولينَ نقعها بصبغة اللامبالاة ، ولم أكن أفقه كنهها آنذاك إلاّ حين تهاوت الشمس وأفلَ ضوءُ القمر ، وما تناهى إليَّ من أنَّكِ رحلتِ إلى مدينةٍ في الجنوب تزورين أقرباءَ لكِ يتحرّقونَ شوقاً ؛ ولم أدرِ أنّه سيكون غياباً أبديّاً ، ولم أدرِ إلاّ وأنا أتلقّى ورقةً صغيرةً موشّاة بالحنين سلّمتني إيّاها أختكِ الصغيرة ، كتبتِ فيها : " وداعاً .. وداعاً ؛ ربّما يطول غيابي فاعلَمْ أنَّ روحي ستبقى فاختةً مفجوعة تحطُّ على شجرة الزيتون الناهضة في فناء داركم لتغنّي لكِ أغنيات الشجن أو عصفورة تحط على نافذة أيامِكَ القادمة لتنشد لكَ ترانيم الوفاء . " . يومها بكيتُ يا ليلى ! بكيت بكلِّ عنفواني وصبري وضياعي . عزمتُ أن آخذَ قِطار الجنوب صوبَ المدن البعيدة والقرى المجهولة المتناثرة هناك بحثاً عنكِ . غير أنَّ هاتفاً خذيلاً جعلني أستكين ، متّخِذاً الذكرى عزاءً لي في غيابك ... رحتُ أنتظُرُكِ ! ( أنتظر يوماً سيأتي نلفُّ أزقّة السماوة عدواً ، نطوف في حواريها الوديعة . نقف على أعتاب جسرها العتيق . نلقي بأنفسنا في عرض الفرات ، ثم نعود تبللنا أمواه الحيوات الكامنة فيه مفعمين بالأريج المحتشد على ضفتيه ) . لكنكِ ما عُدتِ ... حملتكِ بقسوتها المُجحفة عرباتُ الظلمةِ الأبدية فخبا بريقُ عينيكِ وانطفأ ؛ ولم تشفع براءتُكِ وسنوات فتوتكِ اليافعة ... وها أنا أعدُّ على شاهدة القبر الرخامية أعوامَكِ الخمسة عشرة . يأخذني الحزن ، وتهرم سنواتي المتزاحمة . تشيخ وتتلاشى فأتيه في مفازات الرغبة والانتظار للقائنا السرمدي ، ولحظات الاحتضان السديمية .
(3) حيرة الاسئلة
حتّام تبقى السماءُ في فضاء ٍمكين رافضةً للغيومِ الزائرة ؟ .. وإلامَ تظلُّ هذه الربوع أسيرةَ فناءٍ خَمولٍ راجزٍ على سرّة الأرض الشسيعة ؟ .. مَن منّا لم يمسسَهُ لهيبُ التعاسةِ ، ولم تمزّقه نواجذُ الفقر ؟ .. الأيام التي صرفناها من عمر السنين المتناسلة على كواهلنا ما عاد لها طعمٌ نتذوق فيه شهدَ الأحاديث الجنائنية وخمائل الكلام الباعث على تفجير منابت الخيال . جملةُ الأسئلةِ الحيرى تنشظر فلا تُنتج غير حسرات ننثرها كقشٍّ جفيف في دفقةِ هواءٍ ريحي ينقل للآخرين ملحمةَ آهاتِنا الهائجة وجملةَ خطايانا الفائضة وركامَ أشعارِنا المتهالكة ... يقفُ عندها ويفوه بكلماتٍ يقولون عنها " رسالة " : أنتِ حبيبتي التي زرعتُ لها بطاحَ القلب جنينةً للمسرَّة . وندهتُ بها أنْ تعالي . يا قبلةَ البهاء وضحكةَ الطفل الرضيع ! أيتها الرازحة تحت ركام الغنَج المائي والدلال الفائر أُخرجي كي تصافحي أكفَّ شوقي ، وأعلميني بصفيف أخبارِك فقد فرّقتنا الأعوام .. أنتِ في روضِ بهائكِ ترفلين وأنا أعومُ في بحرِ غربةٍ قاهرة ضيَّعت لي أحلامي القادمة ، وبددت أعوامي الضجيجة بالأمل . أبعدتني عن أعشاشِ حلمي الجميل في بيتٍ أجمعُ ارتفاعاته كعصفورِ حنين يرتقي الألفة ويبحث عن الدفء الضائع ، المسروق . " ..
يتوقف ...
ثم يكتب : " إذا كنتِ نسيتِ جملةَ السنين التي دثَّرها غبارُ الأيام فآل بكِ إلى التوجُّه نحو مناهلِ صورٍ أخرى فلا أضنُك نسيتِ ضيقَ ذلك الزقاق الذي كان يجمعنا كملاكين رماهما الله في احد دروب البراءة الحييّة .. هل ما زال حرف " زاء " محفوراً على ساعدك ، والسهمُ الطاعن للقلب يقطرُ عسلاً من دم ٍ ؟ أم استحال قطعةَ جِبنٍ يقضمها القادم من غابات الاستحواذ ؛ ملكَكِ كلَّكِ دون استثناء فلم يترك لي منكِ غير باعث الحسرة والألم والترجي أن لا تنسيني . أنتِ التي حفرتي ( اتذكرين ؟! ) على ساعدي بوشم الإبرة الواخز التي كانت طعناتها المؤلمة تبعث نشوةً داخلي .. لكأنَّ المازوشيا تفعل فعلها بأعصابي فتدون حفرَكِ القائل ( لا تنساني يا زاء .. لا تنساني أرجوك ! .. هـ) .. والحقيقة لم يكن رجاءاً بل أمراً صرفتُ الأعوام للاحتفاظ به والإخلاص له .. وكم من عشيقةٍ دخلت معي في عِراك بحثاً عن كاتبةِ حروف الرجاء / الأمر بينما أحتفظ أنا بالسرِّ فيما أنتِ ترفلين على خمائل إرضاء القادم من غاباتِ الهيمنةِ ؛ ولم اسمع انكِ تشابكتِ وإيّاه في جدالٍ عن المحفورِ على ساعدكِ ؟ .. " آآآآ .
حتّام يبقى يتألم ، جريحاً ؛ والزمن يسرقُ من بضاعة العمر خلاصة الأعوام الوردية تاركاً بقايا حُطام أيامٍ متهالكة بينما صرنا نخطو مثقلين بتهالكات ألاماني التي تعثرت فلم تؤول إلى التحققات مستحيلةً نوايا تثير سخرية الزمن وهو يقتات متعافياً على شهدِ أعمارنا اللاهثة نحو الانصراف . نلتقيه ؛ فيقرأ لنا ما كتبه لها : " يوم تواجَهنا ؛ تلك اللحظات المغيبية من ذلك الغروب الخريفي كنتُ أنا يصاحبني الهواء ، وأنت تخطين بجانبه يترجل منتشياً ، يصاحب هالة البهاء ويتبختر متباهياً بأنه يمتلك ملاكاً سرقه ممَّن هو أحقّ به .. كنتُ استحلتُ كتلةَ مرارةٍ وأسى وألمٍ وأنا انظر إليك رافلة ، وأنت تنظرين بملامح حيادية لا تشي بشيء .. آآآآآآآ "
حتّام يبقى على أملٍ نحرته سكاكينُ الأيام ، ويستمر مصرّاً على أنها ستعود له ، ستأتيه وأن خطفتها أجنحة النسيان وأبعدتها عن شاطىء ذكراه وتذكره . كنا نقول له بما يشبه برقيات متتالية متتابعة : " السحابة التي انتظرتَ غيثَها هطلت على أرض بعيدة عنك ؛ فلا تسقط أسير الوهم والانتظار " , " سعادةُ المبتهجين على خمائل الايام مسروقةٌ من حزن الحيارى الهائمين على هدي السراب ! " وأيضا ، أيضاً كنّا نقول : " كان حلماً وقد انتهى ! " و " الانتظار وهم ! " رأيناها وايّاه يسبحان في بحر من الزهور ، فكيف يحنَُّ السعيد إلى مأتمٍ فرُّ منه ، فتعود إليك لهفةً .. أنت مجنون ! "
وكانت الايام تعدو .. وحلمه بالعودة واللقاء ينضب .
وكانت السماء ترسم تاريخاً لحياة جديدة في وقت صارت خطانا تثقل .
ويوم التفتنا نبحث عن أنفاسه أخبرنا الفراغ أنّه كان جسداً بارداً ، مثلما أسرَّ لنا بأنَّ آخر كلمات كان يتفوّه بها هي : " سنلتقي ! .. أنا واثق سنلتقي ! لا محالة يا هناء ! " .
السماوة 20/11/2005
قصص قصيرة جداً
تجاوزت الحلم .. الفراشات
زيد الشهيد
(1) انعتـاق
كما السكارى كانا يتهاديان ؛ تعلوهما سماء مقمرة ويحتويهما سكون تناغيه مويجات تمس الشاطىء الرملي بحفيف رهيف .. مصابيح المنارة الشاهقة للمسجد المشرف على النهر تدلق أنواراً تترقرق في انسيابية الماء . يستنشقان رائحة الرمال التي غسلتها شمس النهار بطلقها الباهر ؛ وينعمان بأنسام رخية تمس وجهيهما قادمة من بساتين نائية تتاخم النهر .
_ عجباً ؛ كيف أغريتني فجعلتني أنتزع نفسي من شدقين هائلين : أهلي والظلمة ؟!
فضحك ؛ وجاءت ضحكته همساً :
_ أنتِ التي دفعتني لأطلب إليكِ المجيء .
هتفت باستغراب مفتَعَل :
_ أنا ... ؟! أنا أيها المجنون ؟
توقَّفَ يرمقها مستعيناً بضوء القمر :
_ أتسمّين هيامي بك جنوناً ، يا جاحدة ؟
_ وكيف يكون الجنون ، ونحن نسير في هذا الليل المسكون بالأشباح وخلوقات النهر الغامضة ؟
صمتا قليلاً ...
كان صمتهما تقديراً للحظات جذل تعيشها اللحظة .
وكان صمته استنطاقاً لفرصةٍ عزمَ على الافشاء بها بعد أن تداولها في سرّهِ كثيراً .
قال يسبقها في كلامٍ همَّت النطق به :
_إذاَ سنخرج غداً إلى النور .. كفانا تخفّياً كأننا لصوص .
امتدَّت كفُّهُ تلثم كفَّها فاشتبكت أصابعه مع أصابعها التي اعترتها ارتعاشة مفاجئة .. لم تفقه كلامه لأولِ وهلة فتوقفت ؛ ثم شهقنت :
_ أجقّاً ما تقول ؟!
_ نعم ! ... كانت اجابته الواثقة : ألا ترين أنَّ لقاءاتنا باتت كافية لنخلق عالمنا المتآلِف ؟
تقارب جسداهما وتماسّا وهما يواصلان سيرهما في وقت كانت نظراتهما ترتفع مع ارتفاع قوام المنارة لتستقر على كتل المصابيح فتشتعل أنوار السعد في روحيهما ويعمدان إلى الصعود صوب الشارع المُضاء دون خشيةٍ _ هذه المرّة_ أو تردّد .
15/1/1995
(2) احتشاد
مُذ غادرت البيت وتوجَّهت صوب دائرتها والنشوى تغرقها ، ونسيم الصباح يضمّخ وجهها .. الرؤى في جنبات مخيلتها تستحيل مشاهد رياض وفراديس راكضة باتجاه الأفق .. توالدت في رأسها كلمات تفوّهتها بعذوبةٍ ، فهمست في جذل : " ياه ! أهكذا يحس الشعراء وهم يطلقون القصائد ؟! "... السيارات المارقة على جانبها تبدو لها بؤراً من حيوات متنقلة . والرصيف الممتد أمام ناظريها شريطاً عشبياً يحثّها على الجري . الصغار المسرعون إلى مدارسهم تراهم عصافيرَ خضَّبتها الألوان الفائرة بالزهو .. ( آ.. محمود !! محمود ! ... كان الاسم يتردد على لسانها لمرّات لا تحصى ؛ لكأنها تحت هذيان متواصل ) .
توقفا إلى جانبها سيّارة صالون صغيرة ؛ وسمعت من يناديها من الداخل . أدارت وجهها ؛ وجدتها زميلةً لها في العمل مع زوجها دعياها للصعود ، فابدت تشكّراً فيه رقّة وامتنان . تركاها وبريقٌ يسبح في بحر عينيها المؤتلقتين ، وابتسامة على وجهها تكافىء رحيق داخلها المحتشد . ( رنين الهاتف مساء الليلة الفائتة ما زال مستمراً في مسمعها ؛ والصوت القادم من بعيد تتكرَّر نبراته : فاتن ! فاتن ! .. آ ؛ لم تعد لدي القدرة على الابتعاد عنكِ . صرتُ كَمَن يبحث عن شيء أضاعه . العيون التي تحيطنى ترسم لمسات طلعتكِ ، والشفاه هامسة أسمعها تتنغَّم بإسمك .. أهيم كالممسوس بي حواري " السماوة " . أخرج من شارعٍ لأدخل آخر . جوّالاً أذهب إلى الفرات ؛ هناك حيث المصطبة التي تضمّنا في مواعيدنا المسائية . أجلس فأسمع مَن يسألني عنك . أتراني أسمع حقّاَ ؟! . لا أجيب . أنهض ؛ أهيمُ من جديد . ) .. مرقت من أمام بائع زهور فابتاعت باقةً ×\، ثم عاودت المسير .
في دائرتها طالعت وجوه زيلاتها تشي بدهشة] تشوبها التساؤلات لمرأى الورد . دخلت غرفتها ؛ سحبت جارور منضدتها الاسفل فأظهرت دورقاً كانت الأوراق القديمة تتناثر في زواياه ( لقد أهملته منذ شهور يوم اكتشفت رئيس دائرتها يطيل النظر إليها ؛ يُسمِعُها كلمات مبطَّنة يُنهيها بأن يقول : هل تسمحين لو اقتربتُ لشم ورودك . كانت تمتعض وتستعد لإلقاء كلمات الرد العنيف لكنها تتمالك نفسها خشية فقدانها العمل . ) .. دعت العامل الذي أسرع فتناول الدورق وأعاده ممتلئاً بالماء ... فلّت بأناملها الدقيقة الخيط المطوِّق لأغصان الورد ، وراحت تدخلها غصنا فغصنا . حتى إذا فرغت منها استحال الدورق رزضاً مصغّراً جعل زميلاتها ينهضنَ فيطبعنَّ قبلاتِ على خدِّها الرقيق ، وهب بين خجلٍ ظاهر وبهجة دفينة تعبّر عن شكرها ؛ تفيض عيناها بدموعِ فرحٍ رأت من بين تدفّقها محمود ( هكذا رأت ) يدخل عليها ليشهد لحظة الاحتضان والتحليق في عسل الجذل ، والغرق اللذيذ .
عمّان ايلول 1994
( 3 ) تعالـق
يوم أمطرت السماءُ شذا النرجس كان هو متخِّدراً ، يعدو في كل اتجاه ؛ وكانت هي على جناحِ فراشة تطير ( غريباً بدا ذلك النهار ؛ وغريبةً تلك اللحظات المضمّخة بالدهشة والذهول ، تزحف ببطءِ سلحفاة .. بطءٌ ما عهداه ، ولم يوعَدا به . ذابت عند أقدامهما وتلاشت صغيرةً أمانٍ كانت عصيّةً عليهما في عالمهما البعيد الذي خلَّفاه وراءهما . تلك الأماني كانت لهما مثل أقمارٍ وكواكبَ يتعقّبانها علّهما يضفران بامساك واحدة . صار كلُّ شيء بأيديهما ؛ وصار كلُّ ما لم ينلاه هناك يسيراً هنا ) .. قالت له كالحالمة وعيناها السوداوان نصفا مغمضتين : " دعنا نذهب هناك ! " وأومأت إلى فيضِ ألوان طيفية متجانسة . فأجابها ؛ بل هتف صوتٌ من أعماقه : هيّا .. هيّا . فتهيأها ؛ فانطلقا ؛ فانتشيا في العدوِ .( اخترقا ذلك الجدار الشفيف ؛ وخرجا فأدركا مدناً ورياضاً وشطآن . دخلاها كالفاتحين أو كالمتلقّين دعوةً للذوبان . تجولا في شوارعَ حفّتها منابت الورود وظللَّتها وارفات الشجر . دلفا بيوتاً أشرعت أبوابها حالما تحسسَّت انفاسهما . جعلا يتفرجان ، يترجمان معالمَ أسبغت غرابتها دهشةً في دواخلهما اللهيفة . في مسامعهما عجَّت أصوات رخيمة متماوجة كأنها قادمة عبر تدفّقات مائية من جدران ناضحة ؛ ثم راحا يخرجان من بيتٍ لبيت ، ومن أرضٍ لأخرى ) حتى إذا أدركا مدّاً مائيّاً يتَّخذ شكل قلب نزلا إليه يستجمّان بطراوته ويذكيان في دواخلهما عالماً من الجذل والانتشاء . يغطسان ويعومان .. يغطسان ويعومان . وإذْ شعرا أنهما اغترفا الكثير الوفير من مناهل الحبور استلقيا على ظهريهما يتابعان زرقة السماء وتشظّي سهام الشمس الدافئة ، ويحاوران صدى روحيهما الطافيين على زرقة سماء باهرة دون أن يعلما سخونةً مفاجئة طفقت تعلو إليهما من جوفِ الماء .. تعلو وتشتد ؛ تشتد .. تشتد حتى تركت الأعماق تغلي ، ومياه السطح تتبخر فيكتوي الجسدان .. صرخت هي .. صرخت . رآها ترتفع مع البخار وتتفكك ثم تتلاشى . هتف بها ! هتف .. هتف ... وإذْ فتح عينيه أبصرها جالسة على حافة السرير ترنو إليه بعينين دامعتين ، وشفتين متيبستين . ومن فوق حبال الألم المشدودة إلى خاصرته سمعها تهمس له : آ.. يا حياتي ! لقد كنتَ تنعُم بنومٍ هادىء طوال الليل فما بالك الآن ؟! .. لم تسمع له ردّاً سوى أنها جوبِهت بفتاةٍ ترتدي البياض تقترب من السرير وبيدها حقنةً ، قائلة أنَّ مفعولها سيريحه لبعض الوقت
المفضلات