بعد رحيل الربيع وتحت أغصان النسيان وبين عالمين
انفصلت فيه الحياة عن جسدها الباكي
تسلل الضباب بخفة بين تلك الأشجار كغيمة باردة
تحتضن أخر أنفاس ساعات النهار
مر على الأغصان الذابلة عازفا لحنه الحزين الفريد.
كانت ألبروده تشتد مع كل نفس يطلقه في ذلك المكان
واصل زحفه بثبآت ليصل لأعلى النهر وهناك
وكأنه شعر بالتعب والفضول فتوقف فجأة
على بعد خطوات من خيالين
يتحركان وحيدان ببطء نحو النهر وكأنهما
لا يكترثان للبرودة التي أحاطت بهما
كان الخيالان لرجل وأمراه في عقدهما الخامس تقريبا
قادتهم خطواتهم نحو طاولة بقرب النهر
"طاولة الذكريات " هذا ما فكرت فيه المرأة
وهي تنظر إليه ثم تقدم منها و جذب لها
كرسي أحلامهم البعيدة وجلسا بصمت للحظات
ابتسمت بخجل "لم يتغير كثيرا منذ أخر مرة كنآ معاً,
قالت بهمس و هي تمر بعينيها على ذلك الشعر الأبيض الذي غطى معظم سواد شعره
ومازال هو كما هو يعرف أين أحب أن أجلس ." أضافت أمام النهر" وتنهدت بصوت عالي
وسرح نظرها وسمعها لتدفق مياهه العذبة التي ترفض
أن تتجمد رغم اشتداد البرد
" أما زلت تحبين سماع صوت الحياة ,
هذا ما كنت تطلقينه على الضجيج
المتدفق للنهر " قال لها وهو يرى تلالا عينيها
وسرحانها المفاجئ
" نعم " لكن توقفت عن سماعه منذ زمن , منذ رحيلك " وغر ورقت عينيها بالدموع
" حبيبتي " لا تبكي . أنظري ماذا أحضرت لكي ؟ "
كان يحاول الآن جاهدا إلا يرى
دموعها الغالية تنسكب على وجنتيها
فهي تحرق روحه قبل قلبه
" ماذا " قالت وهي ترفع رأسها له بتردد
فهي لا تريده أن يرى مدى شوقها له
وحزنها لافتراقهم طوال هذه السنوات
كانت قلآدة حفر عليها أسميهما أهدتها له
عند ولادة أبنهما الأول
" وكيف لا أذكر يا عزيزي "
وابتسمت له وأضافت "لقد كانت هديتي الأولى لك"
" لا" لم تكن هديتك الأولى لي " قال لها وهو يمسك بيديها
" لا أذكر بأنني أهديتك شي ذي قيمة قبل هذه القلادة " ردت
" بل فعلت " قال
" ماذا " تساءلت حائرة
" أنت , وأي هدية والله أروع وأكثر قيمة لي منك
يا أغلا البشر " قال ذلك وابتسم لها عندما
رأي تلالا الدموع في عينيها
كانت الدموع التي تفوق الابتسامة حنانا
والمطر رقة
الدموع التي تمسح الحزن بنقائها
" آه يا عزيزي كم مرت على السنوات بدونك باردة ,
خالية من الحياة " قالت وأمسكت يده بقوة
" ليس بعد ألأن يا عزيزتي فهنا لن نفترق أبدا أعدك "
قال لها مبتسما وهو يحاول أن يطمئن
قلبها الخائف
وللحظات تحدثا عن أبنائهم وأحفادهم ثم صمت الاثنان
ليتابعا ضوء الشمس المنعكس على الماء
( كان المشهد مهيب وكأن الشمس تحترق خلف الأفق والنهر
يحضن صورتها بين ذراعية لاحول ولاقوه له إلا أن يتابع لحظاتها الأخيرة باستسلام )
وكأن الضباب أستيقظ من غفوته فجأة
واستعادت أطرافه الحياة ليواصل مسيرته نحو النهر
وحين وصل للاثنين
حملهما معه أليه ليترك طاولاتهما خالية إلا
من قلادة كتب على جانبها الأول " اسميهما " وعلى الجانب الأخر
"معاً للأبــــد"
.
.
serenity
المفضلات