حكايانا.. يوم دراسي حافل
منيرة آل سليمان / صحيفة سبق .
أنا حافل !
اسمي هكذا !
هل يصفني فعلاً ؟ لست أدري
من أطلق هذا الاسم علي ؟ أيضاً لست أدري
في أحايين كثيرة أكاد أجزم بأن الاسم تهمة !
وفي أحايين قليلة أشفق على نفسي وأصرخ فيني :
هذا كثير !
لكن
قد تكون حقيقة فعلاً !! ربما أنا حافل بالسلب أو الإيجاب وربما بهما معاً ..
بالنهاية أنا هكذا
اليوم قررت أن أنصفني !
وأقف بنفسي على نفسي !
لا بأس إن كنت الخصم والحكم والشهود أيضاً !
سأطلّ على نفسي بنفسي !
سأقول كلمتي عني .
قررت أن أتحدث عني بالكثير من الحيادية ( ما استطعت ) .. سئمتهم وهم يلوكون سيرتي ، ويكيلون لي كل شيء وأي شيء ، ربما امتدحوا وما أكثر ما ذموا ! ويا ليتهم سكتوا ؛ لأن أحاديثهم تطير مع حمائم الدوح في الأفنية إن وجدت ، وتنشف أحبارها وهي جافة أصلاً ، لا جديد يقال ، ولا ثمة ما يمكن سماعه تحديداً .
سأختارني أولاً في مدرسة ابتدائية ! سيكون ذلك مثالياً فيما أظن ..
أن أتدرج حتى أصلني إلى مراحل أعلى ، وستكون مدرسة للبنات ، فمن تكتبني أنثى ، وهذا من بديهيات الإنصاف لدي .
ومن العدالة فيما يبدو لي أيضاً أن أختارني في مدرسة حكومية مبناها مستأجر رغم خشيتي الشديدة من سوء اختياري سلفاً ! فالمباني المستأجرة ربما تعني سقوطي الحتمي وانتحاري أمام باب المجلس أو حتى المقلط !!
هذا أنا آخذ نفساً عميقاً وأكاد أنتفض كعصفور بلله القطر لأنفض كل عوالقي الغبارية السابقة وأكون جديداً في خبراتي حتى أكون منصفاً !
يا للصباح الجميل !
أشعر بشيء من الانتعاش ، وأنا أمشي خلف أولئك الصغيرات وهن يتسابقن للدخول بشرائطهن البيضاء المتطايرة ! وأثوابهن النظيفة .
يا للروعة !
أسمعني أهمس بذلك وشيء من انتشاء يتلبسني ، لكنني أطرقت خجلاً قبل أن أقول مدعياً :
ما أروعني !
ذلك أن منظر الصغيرات يدهشني ويجعلني أستطعم نفسي لذيذاً حتى آخر حصة !
سيكون اختياري مريحاً مع أولئك الطفلات ( ! ) لكن شيئاً ما أربكني وانتزع لذتي حين لمحت ثم تأكدت ثم صممت على الاعتراف وأنا أجر تنهيدتي وأعضّ على سبابتي وأقر بأول اعترافاتي .
لفتني منظر الحقائب لم يكن يعنيني صور بطلات طيور الجنة التي صدعت رأسي أناشيدها تقال بلهجات غير لهجات صغيراتنا ، الذي آلمني ظهور صغيراتي المائلة للأمام وبعضها للخلف وقد أثقلتهن أوزان الكتب والدفاتر التي ألزمتهن بها !؟
وأخريات تجر الواحدة منهن حقيبتها كرحالة في مطارات العالم !
نقطة سلبية كتبتها في ورقتي وشددت عليها حتى ثقبت ورقتي ومضيت ...
لم يتكامل جسدي إلى الداخل حتى صم أذني صراخ التلميذات جماعياً حاداً كأزيز الطائرات يتزاحمن ويتراكضن فيما يشبه الفناء ، كنّ بأعمار مختلفة وأطوال كذلك ، وقد تلاحمت الأجساد وتزاحمت الأنفاس ! وفاحت الروائح رغم أن الوقت ما زال باكراً تمنيت ما أسدّ به أنفي حتى لو كان شماغ أحد المسؤولين !!
خرجت لاهثاً بل دخلت في الحقيقة ، كان مقر المدرسة من مبنيين يفترض أنهما خُصّصا لعائلتين متوسطتي الأعداد ( أم وأب وصغار فحسب ! ) .
لكنها احتوت مئات الأعداد والأرواح !! دخلت المبنى الأول كاد فكّي يسقط دهشة ، شعرت وكأن السقف يكاد يلتصق بهامتي رغم طولي الذي تخيلته متوسطاً ! لا أدري كيف تتنفس كل تلك المخلوقات كل ساعات اليوم المقررة عليهم ؟! كيف يأتي الهواء ويتوزع بينهم ؟
تلفت سريعاً لعل هناك مضخة أوكسجين في مكان ما ، العالم تعيش هنا وتتنفس على أية حال .
لا أدري كيف استغلت حجرات المدرسة بهذا الإتقان ؟ وقد صفت المقاعد في حجرات الدراسة المفترضة صفاً تعجب منه النحل والنمل معاً !
حاولت الصعود للأعلى لعلي تمكنت من إطلاق أنفاسي المحبوسة فكدت أتعثر في السلالم العجيبة!
عدت أدراجي وقد عصف بتركيزي وكاد يفقدني توازني ويجهز علي ويعجل بإغمائي صوت جرس يزلزل الأرض من تحت الأقدام ، شعرت بالدوار واللهاث وأنا أتابع في تثاقل خطواتي وقد حولني ارتياعي إلى ما يشبه الفاقد ذاكرته .
حتى مررت على زحام ما تبدو الرؤوس منحنية تفعل شيئاً ما ..
كنّ المعلمات والإداريات يتزاحمن على دفتر التوقيع !
تبدو مشادة وكلمات متطايرة غاضبة وإحداهن تحمل مسطرة وقلماً أحمر !
فهمت !!
هززت رأسي وحوقلت وأنا أتمنى لو أنتزع القلم الأحمر وألقي به في فناء التلميذات ليسفك دمه وتنتهي معاناتي منه !
سألقي بجسدي على هذا الكرسي الفارغ ، سمعت أنه لـ " نورة " الغائبة منذ عدة أيام .
تكاملت المعلمات سوى من ابتليت بالمناوبة وملاحقة الصغيرات وتنظيمهن ، لكنهن ما زلن في حديث عاصف حول الخط الأحمر الذي خط سريعاً وسط دفتر الحضور ولم تأبه راسمته بمبررات الطريق وأمزجة الأزواج والسائقين وتوصيل الأولاد والبنات ؛ ذلك يعني أن من ستخط اسمها تحت الخط الأحمر ستحسب عليها الدقائق التي تأخرت فيها حتى إذا تكاملت في عدد معين سيتخذ في حقها إجراء ما .
لم أشعر بالارتياح لمنظر المعلمات على الإطلاق .
بالفعل كن مهندمات ومتأنقات ( الأغلب منهن على أية حال ) لكن النشاط انطفأ من ملامحهن والعيون المشرقة والابتسامات الراضية تكاد تختفي تماماً .
لا أرى سوى وجوه عابسة وشفاه متورمة وجفون كذلك !
الصمت يسود المكان بُعيد ذلك الحديث العاصف وجملة الاعتراضات الكثيرة .
زفرت بهدوء وأنا أنتظر القادم الأجمل إن شاء الله تعالى .
مراقبتي لحركة أياديهن الآلية تشعرني بالرغبة في الضحك ..
روتين حفظنه تماماً يطبقن العباءة ، يتأملن في مراياهن الصغيرة ، وربما كشرت إحداهن عن أسنانها لتزيل عوالق حمرة الشفاه ، ثم تكمل تصفيف خصلاتها ، وترشّ عطرها وقد شممت عطوراً باريسية كثيرة أصابتني بنوبة من العطاس الشديد كتمتها بالكثير من الجهد !
أشعر بالخدر الآن ورغبة شديدة في النوم، تذكرت اسمي وأنا أهز رأسي وجعاً ، لكن تلك الطرقات دقت أذني دقاً !
إنها المديرة تكيل للباب صفعات قوية على خده المتورم ، تستعجل المعلمات لحضور الطابور والإذاعة الصباحية ،
( غصب يعني ؟! )
رنت تلك الكلمة في الأجواء القريبة من المعلمة ، ويبدو أن رادارات المديرة التقطتها سريعاً وها هي تصم أذني بصراخ أشبه بالشتائم وتهديد لا يقال إلا في مخابرات العصور الوسطى أو هكذا يبدو لي !
جيد أنها انصرفت حين تعالى صوت مذيعة الإذاعة الصباحية ( مديرتي الفاضلة ، معلماتي العزيزات .......) زممت شفتيّ ولويتها مستنكراً : كيف استمرت تلك المقدمة منذ اخترعت الإذاعة الصباحية لدينا ؟!
ثم قفت بدوري لعلي ألحق بالجمع ، لكن ها هي تعود وتلوج بسبابتها في وجه إحدى المعلمات تبين لي أنها معلمة الاجتماعيات يبدو لي أنهما تتمان حواراً منذ الأمس بين الرفض والغصب في أن تتحمل " فاطمة " أربع حصص إضافية لمنهج العلوم لتكمل نصاب الـ 24 حصة لفصلي سادس وثمانين طالبة أيضاً ! عدت أتهاوى على مقعدي وسبابتي تؤلمني وأنا أكاد أقضمها !!
لكنني قفزت ملهوفاً فقد نسيت الأهم ..
التلميذات هن الأهم بالطبع اللاتي لأجلهن حدث كل هذا ..
حيث وجدت منسوبات المدرسة لقمة عيش واستؤجرت المدرسة وألفت الكتب واستحدثوني وأقضوا مضجعي !!
كانت إطلالتي على الطابور الصباحي حذرة ، لا تزال مقدمات الإذاعة الصباحية في شغلهن الصباحي المعتاد نصائح يرددنها وأناشيد يتمايلن معها ومواضيع عن الأمانة والصدق والإخلاص في العمل يكررنها من عهود سابقة !
خرجت زفرة قصيرة أشبه بالآهة وأنا أتابع بالكثير من الشفقة تزاحم الصغيرات على ذات السلالم والعصي تلوح فوق رؤوسهن ليستعجلن الذهاب للفصول تتراكضن بالكثير من الحرفية فوق الدرج، ويدي تكاد تمسك قلبي هلعاً أن تسقط مجموعة منهن فتحدث كارثة ما ! لكنهن واصلن القفز دون أن تعير أسماعهن أي اعتبار لتلك الألسنة المندلقة لصراخ المراقبات والمعلمات المعتاد فيما يبدو !
الآن بدأت الحصة الأولى ..
بدأت أنا فعلياً لكن في الحقيقة أشعر أنني لست على ما يرام رغم أنني لم أبدأ بعد !
المفضلات