قصــــــــاص الأثر
[اليتيمة] – [الحلقة السابعة]
أخذتني إغفاءة نوم قصيرة وغريبة في نفس الوقت , رأيتُ فيها والدي يدخل علينا وبصحبته [بقرة] رقبتها طويلة وهو يجرها إلى داخل البيت وهي ترفض الدخول !! قطع حلمي صوت الباب وهو يفتح , دخلت والدتي وأم سعود وهما تقولان لم نجد والدك يا نورة !! ولم نستطع أن نعرف أين أخذوه أو أين ذهب؟! حتى أبو سعود يقول لم أستطع أن أعرف أين اختفى!!
قلت لهم: حجة الغائب معه , وأكيد لو كان قد أصابه مكروه , لكُنا قد عرفنا ذلك , أخذت والدتي تردد دعاءها وبطريقتها العفوية المعتادة , بأن يردَّ إلينا والدي سالماً من كل مكروه قالت : أم سعود بأن أبو سعود سوف يبذل كل مافي وسعه لكي يجد والدي , التفتت إليها والدتي وقالت : لا أعرف ماذا كنا سنفعل يا أم سعود من دونكم بعد الله , طمأنتها أم سعود ووعدتها خيراً واستأذنت وخرجت قائلةً : تصبحون على خير , ودعناها وشكرناها كثيراً.
جلست والدتي , وجلستُ بقربها , ومباشرة أخذت تحدثني قائلةَ : شوفي يا بنيتي يا نورة , البنت منذ أن تتزوج ومهما حصل بينها وبين زوجها ومهما قسا عليها الزوج, فليس لها إلا زوجها وبيتها !! كانت والدتي تتحدث وأنا أحاول أن أغلقَ أذناي , لكي لا أسمع مثل كلامها هذا , فكلامها قد يقبله شخص آخر لايعيش معها في نفس البيت , أما أنا فلا يمكن أن أقبل بمثل هذا الكلام أبداً أبداً , مهما أطالت والدتي في الكلام عن حقوق الزوج !!
جلسنا ننتظر أنا ووالدتي ونحن ننظر إلى النجوم الساطعة في السماء ومترقباتٍ أي خبر عن السيد الوالد الغائب الحاضر , عسى أن يأتينا خبر عنه أو حتى أن يطل هو علينا برأسه , ولكن بلا فائدة , فلا أطل علينا ولم يأتنا شيء ما يفيدنا عن غيابه!! قطع صمتُ سكوننا صوت أختي دلال قائلة : أنا جائعة يا أمي , وما إن سمعتها سارة تقول ذلك حتى قالت : وأنا جائعة أيضاً وأريد بطاطا مقلية!! انتبهنا إلى أن الـوقـت قد مر علـينا دون أن نتـعشى أو أن نلتـفت إلى عشـاء أختاي دلال وسارة !!
أرادت والدتي أن تذهب لكي تُعد لنا العشاء , فطلبتُ منها الجلوس فيما أنا أجهز العشاء لنا جميعاً , لكن والدتي قالت : وهي تهم بالوقوف : لا يا نورة أنا من سيصنع العشاء فلو جلست هكذا أنتظر والدك من دون عمل فسوف أجن , ثم أردفت قائلة : الشغل وأنا أمك يوسع الصدر ويطرد الهموم !! بعد هذا الكلام لم أستطع أن أقول شيئاً غير أن أتوجه معها إلى المطبخ وأختاي تتبعاني.
بعدما تناولنا عشاءنا في ساحة البيت و تحت سقف السماء , قلتُ لوالدتي ما رأيك لو نمنا هذه الليلة هنا في ساحة البيت؟ قلتُ ذلك لأنني كنتُ أعلم بأن والدتي لن تقبل أن أنام معها في حجرتها مهما كلف الأمر !! نظرتُ إليّ والدتي وقالت: لكِ ما تريدين يا نورة سننام جميعاً هنا !!
جريتُ مسرعةً وحَملتُ الأغطية والوسائد , وقمتُ بفرشها في وسط ساحة البيت , وأخذَ كل منا مكانه استعداداً لنوم , ولكن هيهات هيهات أن يغمض لوالدتي جفن أو أن يهدأ لها بال , قبل أن تعرف شيئاً عن سبب اختفاء السيد الوالد!! نامت أختاي دلال وسارة بقربي , وتظاهرتُ بالنوم , وأخذتُ أنظرُ إلى والدتي وهي تتقلب في فراشها مرة إلي اليمين ومرة إلى الشمال !! وهي تطلق زفرات خفيفة بالكاد كنتُ أسمعها , نظرتُ إلى النجوم الساطعةِ في السماء , وأخذتُ أفكر في أمر والدتي الغريب مع والدي !! فوالدي لم يتركنا نرتاح سواء كان وهو حاضر معنا في البيت , أم حتى وهو في الخارج وبعيد عنا !!
بعد قليل قامت والدتي من فراشها ثم تَوضَأَت , وَفرَشَتْ سجادتها ثم أخذت تصلي , وأنا أتبعها بنظراتي في كل حركةٍ تقومُ بها , كانت تطيلُ السجود وبلا شك كانت تدعو الله فيه أن يرد إليها زوجها سالماً من كل مكروه , كنتُ أستـغرب من طريـقة والدتي هذه !! فهل والدتي تمتلك شخصيتين في داخـلها أم ماذا؟!
إذ كيف لها أن تدعو الله بعودة زوجها سالماً , بالرغم من كل ما تعانيه منه؟! هل هو انفصام في شخصيتها؟ أم هل هي نظرتها الواقعية والبعيدة جداً والتي قد لا أستطيع تحديدها لصغر سني؟! أم هي القوة التي أراها في أمي وفي داخلها؟! أم إن طريقة والدتي هذه تمثل المثل الذي كانت والدتي نفسها تقوله دائماً , وهو بأن النساء [عزَّامات ندَّامات] وهل المرأة عزامة ندامة فعلاً؟ لا أدري قد يكون شيئاً من ذلك أو أن يكونَ كلُ ذلك !!
انتهت والدتي من صلاتها , وأخذتْ تكملُ دعائها بأن يردّ إليها والدي سالماً , كنتُ بالكاد أسمعها وهي تردد الأدعية تطلب فيها عودة والدي سالماً , نهضتُ من فراشي وتوجهتُ إلى المطبخ وأحضرتُ لها كأس ماء لتشربه , ألقيتُ عليها السلام وقلتُ تفضلي الماء يا أمي , أخذته مني وبدأت تدعو لي بالتوفيق وبدعاء يستغربُ بأنه مقابلٌ لكأس ماء فقط !! فقد كانت والدتي دائماً هكذا تبالغ في الدعاء وفي الشكر , لأقل معروف أو خدمة تحصل عليها من أي أحد أياً كان!!
نعم كانت كذلك وبعكس السيد الوالد , فالسيد الوالد كان يستطيع أن يخلق مشكلة من أي شيء , مهما كان تافهاً!! لدرجة أنني كنتُ أعتقد بأنه يستطيع أن يصنع من الهواء مشكلة لا حل لها , فهو ما إن يدخلُ إلى المنزل حتى يقول : لماذا أغصان السدرة متدلية هكذا ؟ وكأننا نحن من خلقناها بهذا الشكل!! أو أن يقول : لماذا بَنَتْ الحمامة عشها هنا؟ أو أن يتدخل في شئون المطبخ وهذا أكثر ما كان يضايقني أو يضايقنا جميعاً ,
أعودُ إلى والدتي , حيثُ سألتها بعد أن شربتْ الماء , قائلة ألن تنامي يا أمي؟
قالت : لا يا بنيتي لقد قارب الفجر على الأذان ولم يبقى إلا الاستعداد لصلاة , وفعلاً فقد أذن المؤذن لصلاة الفجر , فذهبتُ وتوضأتُ وصليتْ الفجر , توجهتُ بعدها إلى المطبخ لأعد الإفطار لنا جميعاً , فتبعتني والدتي وبدأت في عجن العجين وهي تقول : سيكون الإفطار [خبز بالزيت] ثم أخذت تنشد بصوتها أبياتاً ما زلت أتذكرها حتى الآن إذ كانت تنشد بصوت شجي :
{ هنيكم يا هل القلوب المريحة:: ماألوم عيني لو جرا دمعها دم } فأحزنتني بإنشادها هذا, رغم أنني لاأعلم حقيقة معنى ما تقوله من قصيد , ولكنني أعلم بأنها لا تفعل هذا إلا بعد أن يستنزف الحزن كل طاقتها ,
انتهينا من إعداد الإفطار وتحلقنا حوله وبدأنا في تناوله , ثم قالت والدتي , هيا يا نورة , بسرعة لا تتأخري على مدرستك , أخذت حقيبتي ولبستُ عباءتي وتوجهتُ إلى المدرسة , وقبل أن أدخل من بوابة المدرسة التفتُ ورائي ونظرتُ باتجاه بيتنا حيث أمي ,
توجهـتُ إلى الصفِّ ودخلتُ وألقيتُ السلام على الطـالبات وأخذتُ مقـعدي وجلسـتُ , دخلت المعلمة وألقتِ السلام علينا وقالت : أخرجوا القرآن الكريم يا بنات وافتحوا على سورة البلد , ثم أردفت قائلة : لقد توقفنا في الدرس الماضي عند تفسير الآية الكريمة [لقد خلقنا الإنسان في كبد] أليس كذلك يا بنات؟؟ فقالت الطالبات بصوت واحد : نعم يا أستاذه هذا صحيح , قالت : إذن لنكمل تفسير الآية :
فالإنسان منذ ولادته ومنذ خروجه إلى الدنيا وهو يجاهد ويكافح, وتتوالى عليه الأيام والمواقف مع مجاهدته لها وتعبه وشقاءه فيها , وسواء كان رجلاً أو امرأة , فإنه لابد أن يتعب كثيراً في حياته بسبب قلة المال أو بسبب المرض والهموم , قطعتُ صوتَ المعلمة وتفسيرها للآية وقلتُ : أتقصدين مثل والدتي يا أستاذة؟ [قلتُ ذلك بلا شعورٍ مني وربما بسبب انغماسي في فهم معنى الآية الكريمة] مما جعل الطالبات يضحكنَ من كلامي مستغرباتٍ من سؤالي بهذه الطريقة العفوية!!
امتلأت عيناي بالدموع من شدة الحرج , فقد خرج مني هذا السؤال بطريقة لاشعورية , فوالدتي ووضعها كان يسكنان في داخلي وينتظر أدنى إشارة للخروج والتعبير , قطع صوت ضحكات الطالبات صوت المعلمة هي تقول بابتسامة هادئة , هدوء يا بنات , هدوء يا بنات , ثم أقبلتْ علي وقالت : سلامات يا نورة من ماذا تشكو أمك ؟ قلتُ لها بصوت خانق : والدتي مريضة يا أستاذة , فقالت المعلمة : ادعوا لها بالشفاء يا بنات ادعوا لأم زميلتكم بالشفاء , شكرتُ المعلمة على شعورها الطيب , ثم عادت إلى مقدمة الصـفّ
عادت المعلمة إلى مقدمة الصف , بعد أن كدتُ أن أقول لها بأن والدتي : تشكو من كل شيء , من المرض ومن الهم ومن قسوة الزوج , ومن ضعف الحال ومن قل الرجال !!
والدي والمرأة الطويلة؟؟
بعد صلاة العشاء كنتُ أجلس مع والدتي , في ساحة البيت ,سمعنا صوت سيارة والدي تقف بالباب , فهربت أختاي دلال وسارة إلى غرفتي كما هي عادتهما عند سماع صوت سيارة السيد الوالد!! كان منظرهما عندما يجريان هرباً من رؤية والدي مزعجاً لي بمعنى الكلمة!!
سمعنا صوت الباب يفتح , ثم دخل بعد ذلك والدي , وكانت برفقته امرأة بيضاء وطويلة !! وما إن توسطا البيت حتى رفعت المرأة الغطاء عن وجهها , وكانت بيضاء البشرة , ووسط ذهولنا اقترب والدي وألقى السلام علينا وقال وهو يبتسم ابتسامة مصطنعة: هذه زوجتي منيرة وهي التي ستنير البيت وهي التي ستنجب لي الأولاد !!
نهضتْ والدتي من مكانها وكأن أمر الزوجة لا يعنيها !! وقالت وهي تنظر في وجه والدي: أنت سالم يا أبو نورة , ولم يصبك أي مكروه ؟! لقد ذكر الناس بأنه قد اصطدمت بك سيارة مساء أمس , لقد قلقنا عليك كثيراً إلى حدٍ لايوصف !! قال والدي بعد أن تحول حاجبيه إلى حاجب واحد : أنا بألف خير , ألا ترين ذلك أمامك , أو أن الله قد أعمى عينيكِ كما أعمى قلبك !! ثم أمسك بيد زوجته واستدار بكامل جسمه وتوجه إلى غرفته وهو يقول : غداً سيرسلُ لكم أبو صالح القصاب ذبيحتين لكي تطبخينهما على الغداء بمناسبة زواجي !! ثم دخل الغرفة وأغلق بابها وسط دهشتنا ,وأغلقتُ معه الحلقة السابعة من حلقات حياتي .
يتبع إن شاء الله في الحلقة الثامنة
المفضلات