صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 25 من 32

الموضوع: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

  1. #1
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    نقلت هذا الموضوع من منتديات اللوتس للكاتب شهاب دعواتكم له بصحبة الرسول
    بسم الله الرحمن الرحيم


    الاحبة فى الله اخوانى الكرام

    يوجد كثير من الرجال لهم الحق علينا

    فى ذكر سيرتهم لنعرفهم من قريب

    اسمحوا لى بهذا الشرف بأن اسرد لكم سيرة هؤلاء

    الرجال قد ينفعنا به هذا الذكر يوم القيامة

    ونبدا معا بــــ ( معاذ بن جبل - أعلمهم بالحلال والحرام )

    عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهوئه وسمته. فاذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!

    ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..

    هو اذن رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين.

    ورجل له مثل اسبقيته، ومثل ايمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..

    على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقهه..
    بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:

    " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"..

    وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله، وشجاعة ذكائه. سألأه الرسول حين وجهه الى اليمن:

    " بما تقضي يا معاذ؟"

    فأجابه قائلا: " بكتاب الله"..

    قال الرسول: " فان لم تجد في كتاب الله"..؟

    "أقضي بسنة رسوله"..

    قال الرسول: " فان لم تجد في سنة رسوله"..؟

    قال معاذ:" أجتهد رأيي، ولا آلوا"..

    فتهلل وجه الرسول وقال:

    " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".



    فولاء معاذ لكتاب الله، ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسرّة، التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.

    ولعل هذه القدرة على الاجتهاد، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل، هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه واخوانه، صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس بالحلال والحرام".

    وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..

    فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:

    " فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء، وهو أشبّ القوم سنا، فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه اليه فأفتاهم، ولا يحدثهم الا حين يسألونه، ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل".



    وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:

    " دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا، صامت لا يتكلم.ز فاذا امترى القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه.ز فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه".



    وهذا شهر بن حوشب يقول:

    " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا اليه هيبة له"..



    ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستثيره كثيرا..

    وكان يقول في بض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:

    " لولا معاذ بن جبل لهلك عكر"..



    ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه، ومنطقا آسرا مقنعا، ينساب في هدوء واحاطة..



    فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه، نجده كما أسلفنا واسط العقد..

    فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت، لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..

    واذا اختلف الجالسون في أمر، أعادوه الى معاذ لبفصل فيه..

    فاذا تكلم، كان كما وصفه أحد معاصريه:

    " كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"..



    ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه، وفي اجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!

    وكان معاذ سمح اليد، والنفس، والخلق..

    فلا يسأل عن شيء الا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.

    ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..



    وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن، وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!

    ولم ينتظر عمر، بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..



    كان معاذ ظاهر الكف، طاهر الذمة، ولئن كان قد أثري، فانه لم يكتسب اثما، ولم يقترف شبهة، ومن ثم فقد رفض عرض عمر، وناقشه رأيه..

    وتركه عمر وانصرف..

    وفي الغداة، كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..

    ولا يكاد يلقاه.. حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:

    " لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء، أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر"..

    وذهبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، فقال أبو بكر:" لا آخذ منك شيئا"..

    فنظر عمر الى معاذ وقال:" الآن حلّ وطاب"..

    ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق..

    وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..

    وانما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور، فمنهم الطائر المحلق، ومنهم المهرول، ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.




    **




    ويهاجر معاذ الى الشام، حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها، فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام، ولا يمضي عليه في الامارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..

    وكان عمر رضي الله عنه يقول:

    " لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعن نبيك يقول: ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل ، كان معاذ بين أيديهم"..

    والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا، هو الاستخلاف على المسلمين جميعا، لا على بلد أو ولاية..

    فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..

    لإاجاب قائلا:

    " لو كان معاذ بن جبل حيا، ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل، فسألني: من ولّيت على أمة محمد، لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل، بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة".




    **




    قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:

    " يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..

    أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الالحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة، ولا سند ولا عون الا بالله، ومن الله العلي العظيم..

    ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..

    لقيه الرسول ذات صباح فسأله:

    "كيف أصبحت يامعاذ"..؟؟

    قال:

    " أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله".

    قال النبي:

    :ان لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك"..؟؟

    قال معاذ:

    " ما أصبحت قط، الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..

    ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعها غيرها..

    وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..

    وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..

    وأهل النار في النار يعذبون.."

    فقال له الرسول:

    " عرفت فالزم"..

    أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله، فلم يعد يبصر شيئا سواه..



    ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:

    "ان معاذا كان أمّة، قانتا لله حنيفا، ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السلام"..




    **




    وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم، والى ذكر الله..

    وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:

    " احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق، فان الحق نورا"..!!

    وكان يرى العبادة قصدا، وعدلا..

    قال له يوما أحد المسلمين: علمني.

    قال معاذ: وهل أنت مطيعي اذا علمتك..؟

    قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..

    فقال له معاذ:

    " صم وافطر..

    وصلّ ونم..

    واكتسب ولا تأثم.

    ولا تموتنّ الا مسلما..

    واياك ودعوة المظلوم"..

    وكان يرى العلم معرفة، وعملا فيقول:

    " تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم جتى تعملوا"..



    وكان يرى الايمان بالله وذكره، استحضارا دائما لعظمته، ومراجعة دائمة لسلوك النفس.

    يقول الأسود بن هلال:

    " كنا نمشي مع معاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة"..

    ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة، ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه، واستغراقه في محاسبته نفسه..




    **




    وحان أجل معاذ، ودعي للقاء الله...

    وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ،ان استكاع الحديث، كلمات تلخص أمره وحياته..

    وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.

    فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:

    " الهم اني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة"..

    وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول:

    " مرحبا بالموت..

    حبيب جاء على فاقه"..



    وسافر معاذ الى الله...
    التعديل الأخير تم بواسطة ميس ; 31-03-2006 الساعة 02:43 PM
    [IMG]]

  2. #2
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    وسوف نكمل معا باقى حبات اللؤلؤ

    و اليوم موعدنا مع ( صهيب بن سنان - ربح البيع يا أبا يحيى!! )

    ولد في أحضان النعيم..

    فقد اكن أبوه حاكم الأبلّة ووليا عليها ل**رى.. وكان من العرب الذين نزحوا الى العراق قبل الاسلام بعهد طويل، وفي قصره القائم على شاطئ الفرات، مما يلي الجزيرة والموصل، عاش الطفل ناعما سعيدا..

    وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم.. وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلام " صهيب بن سنان"..

    ويقتنصه تجار الرقيق، وينتهي طوافه الى مكة، حيث بيع لعبد الله بن جدعان، بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم، حتى أخذ لسانهم ولهجتهم.

    ويعجب سيده بذكائه ونشاطه واخلاصه، فيعتقه ويحرره، ويهيء له فرصة الاتجار معه.
    وذات يوم.. ولندع صديقع عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم:

    " لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها..

    فقلت له: ماذا تريد..؟

    فأجابني وما تريد أنت..؟

    قلت له: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول.

    قال: وأنا اريد ذلك..

    فدخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرض علينا الاسلام فأسلمنا.

    ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا..

    ثم خرجنا ونحن مستخفيان".!!

    عرف صهيب طريقع اذن الى دار الأرقم..

    عرف طريقه الى الهدى والنور، وأيضا الى التضحية الشاقة والفداء العظيم..

    فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة.. بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره..!

    عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق، ونظام وحياة..

    وتخطي عتبة دار الأرقم، التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة الأمر وواقعه عبور خضمّ من الأهوال، واسع، وعريض..

    واقتحام تلك العتبة، كان ايذانا بعهد زاخر بالمسؤليات الجسام..!

    وبالنسبة للفقراء، والغرباء، والرقيق، كان اقتحام عقبة دار الأرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.

    وان صاحبنا صهيبا لرجل غريب.. وصديقه الذي لقيه على باب الدار، عمّار بن ياسر رجل فقير.. فما بالهما يستقبلان الهول ويشمّران سواعدهما لملاقاته..؟؟

    انه نداء الايمان الذي لا يقاوم..

    وانها شمائل محمد عليه الصلاة والسلام، الذي يملؤ عبيرها أفئدة الأبرار هدى وحبا..

    وانها روعة الجديد المشرق. تبهر عقولا سئمت عفونة القديم، وضلاله وافلاسه..

    وانها قبل هذا كله رحمة الله يصيب بها من يشاء.. وهداه يهدي اليه من ينيب...

    أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..

    وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين..!!

    ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..

    وانه ليتحدث صادقا عن ولائه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول، وسار تحت راية الاسلام فيقول:

    " لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط الا كنت حاضره..

    ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضرها..

    ولا يسر سرية قط. الا كنت حاضرها..

    ولا غزا غزاة قط، أوّل الزمان وآخره، الا منت فيها عن يمينه أ، شماله..

    وما خاف المسلمون أمامهم قط، الا كنت أمامهم..

    ولا خافوا وراءهم الا كنت وراءهم..

    وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين االعدوّ أبدا حتى لقي ربه"..!!

    هذه صورة باهرة، لايمان فذ وولاء عظيم..

    ولقد كان صهيب رضي الله عنه وعن اخوانه أجمعين، أهلا لهذا الايمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور الله، ووضع يمينه في يكين الرسول..

    يومئذ أخذت علاقاته بالناس، وبالدنيا، بل وبنفسه، طابعا جديدا. يومئذ. امتشق نفسا صلبة، زاهدة متفانية. وراح يستقبل بها الأحداث فيطوّعها. والأهوال فيروّعها.

    ولقد مضى يواجه تبعاته في اقدام وجسور.ز فلا يتخلف عن مشهد ولا عن خطر.. منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم.. وعن شهوة الحياة، الى عشق الخطر وحب الموت..

    ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولائه الجليل بيوم هجرته، ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب جلالها تردد ولا نكوص.

    فعندما همّ الرسول بالهجرة، علم صهيب بها، وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة، هم الرسول.. وأبو بكر.. وصهيب..

    بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..

    ووقع صهيب في بعض فخاخهم، فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة الله..

    وحاور صهيب وداور، حتى استطاع أن يفلت من شانئيه، وامتطى ظهر ناقته، وانطلق بها الصحراء وثبا..

    بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوهخ.. ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلا:

    " يا معشر قريش..

    لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون اليّ حتى ارمي كبل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء، فأقدموا ان شئتم..

    وان شئتم دللتكم على مالي، وتتركوني وشاني"..

    ولقد استاموا لأنفسهم، وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له:

    أتيتنا صعلوكا فقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت بيننا ما بلغت، والآن تنطلق بنفسك وبمالك..؟؟

    فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته، وتركوه وشأنه، وقفلوا الى مكة راجعين..

    والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك، وفي غير حذر، فلم يسألوه بيّنة.. بل ولم يستحلفوه على صدقه..!! وهذا موقف يضفي على صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين..!!

    واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا، حتى أردك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء..

    كان الرسول حالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهلاا:

    " ربح البيع أبا يحيى..!!

    ربح البيع أبا يحيى..!!

    وآنئذ نزلت الآية الكريمة:

    ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد)..


    أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها، ولم يحس قط أنه المغبون..

    فمال المال، وما الذهب وما الدنيا كلها، اذا بقي له ايمانه، واذا بقيت لضميره سيادته.. ولمصيره ارادته..؟؟

    كان الرسول يحبه كثيرا.. وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه، خفيف الروح، حاضر النكتة..

    رآه الرسول يأكل رطبا، وكان باحدى عينيه رمد..

    فقال له الرسول ضاحكا:" أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟

    فأجاب قائلا:" وأي بأس..؟ اني آكله بعيني الآخرى"..!!

    وكان جوّادا معطاء.. ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله، يعين محتاجا.. يغيث مكروبا.." ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".

    حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له: أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف..؟

    فأجابه صهيب لقد سمعت رسول الله يقول:

    " خياركم من أطعم الطعام".

    ***************

    ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم، فان اختيار عمر بن الخطاب اياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته ألفة وعظمة..

    فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..

    وعندما احس نهاية الأجل، فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته الأخيرة قال:

    " وليصلّ بالناس صهيب"..

    لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة، ووكل اليهم أمر الخليفة الجديد..

    وخليفة المسلمين هو الذي يؤمهم في الصلاة، ففي الأيام الشاغرة بين وفاة أمير المؤمنين، واختيار الخليفة الجديد، من يؤم المسلمين في الصلاة..؟

    ان عمر وخاصة في تلك الللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى الله ليستأني ألف مرة قبل أن يختار.. فاذا اختار، فلا أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الاختيار..

    ولقد اختار عمر صهيبا..

    اختاره ليكون امام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد.. بأعباء مهمته..

    اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة، فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله على عبده الصالح صهيب بن سنان
    [IMG]]

  3. #3
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    باقى حبات اللؤلؤ

    و اليوم موعدنا مع


    مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام


    هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.

    غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..

    يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..

    ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.

    ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..

    ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء..؟

    بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.

    انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..

    ولكن أي واحد كان..؟

    ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..

    لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..

    "محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.



    وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.

    ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..



    ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...

    هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.



    ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!

    ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.

    ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!




    **




    كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..

    ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.

    فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..

    أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!

    ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.

    وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..



    ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..

    ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...



    ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.

    وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع..

    ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ، تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..

    وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..



    ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.

    ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..



    خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..

    ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..

    وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:

    " لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!



    لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!

    ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..

    وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..

    وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"...

    أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي"..!!

    وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...


    **




    وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..

    كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..

    وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..



    لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!

    وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير".

    لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..

    فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..



    هناك نهض في ضيافة "أسعد بم زرارة" يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..

    ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..



    ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!

    ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..



    أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!

    وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..

    وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:

    "ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!

    وفي مثل هدوء البحر وقوته..

    وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:

    "أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".

    الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!



    كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..

    هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..

    ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!

    ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:

    "ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟

    وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:

    "يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله".

    فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..

    وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!




    **




    لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاه\حا هو له أهل، وبه جدير..

    وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..

    وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..

    حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..

    وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..

    يد تحمل الراية في تقديس..

    ويد تضرب بالسيف في عنفزان..

    ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..



    لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!

    يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:

    [حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..

    وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..

    ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].

    وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!

    وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!

    وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..

    كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..

    ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:

    (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)

    هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..




    **




    وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..

    لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!

    أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!

    لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!




    **




    وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..

    وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..

    يقوا خبّاب بن الأرت:

    [هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..

    وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..

    وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
    على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..

    أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:

    (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)

    ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!

    وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:

    "ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".

    ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:

    "أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، الا ردوا عليه السلام"..




    **




    السلام عليك يا مصعب..

    السلام عليكم يا معشر الشهداء..

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
    [IMG]]

  4. #4
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    واليـــــــــوم نتشــــرف بأن يكون معنــــــــــا

    حبيب بن زيد - أسطورة فداء وحب


    في بيعة العقبة الثانية التي مر بنا ذكرها كثيرا، والتي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فيها سبعون رجلا وسيدتان من أهل المدينة، كان حبيب بن زيد وأبوه زيد بن عاصم رضي الله عنهما من السبعين المباركين..

    وكانت أمه نسيبة بنت كعب أولى السيدتان اللتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    أم السيدة الثانية فكانت خالته..!!

    هو اذن مؤمن عريق جرى الايمان في أصلابه وترائبه..

    ولقد عاش الى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته الى المدينة لا يتخلف عن غزوة، ولا يقعد عن واجب..

    **
    وذات يوم شهد جنوب الجزيرة العربية كذابين عاتيين يدّعيان النبوة ويسوقان الناس الى الضلال..

    خرج أحدهما بصنعاء، وهو الأسود بن كعب العنسي..

    وخرج الثاني باليمامة، وهو مسيلمة الكذاب..

    وراح الكذابان يحرّضان الناس على المؤمنين الذين استجابوا لله، وللرسول في قبائلهما، ويحرّضان على مبعوثي رسول الله الى تلك الديار..

    وأكثر من هذا، راحا يشوّشان على النبوة نفسها، ويعيثان في الأرض فسادا وضلالا..

    **
    وفوجئ الرسول يوما بمبعوث بعثه مسيلمة يحمل منه كتابا يقول فيه "من مسيلمة رسول الله، الى محمد رسول الله.. سلام عليك.. أم بعد، فاني قد أشركت في الأمر معك، وان لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكنّ قريشا قوم يعتدون"..!!!

    ودعا رسول الله أحد أصحابه الكاتبين، وأملى عليه ردّه على مسيلمة:

    " بسم الله الرحمن الرحيم..

    من محمد رسول الله، الى مسيلمة الكذاب.

    السلام على من اتبع الهدى..

    أما بعد، فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين"..!!

    وجاءت كلمات الرسول هذه كفلق الصبح. ففضحت كذاب بني حنيفة الذي ظنّ النبوّة ملكا، فراح يطالب بنصف الأرض ونصف العباد..!

    وحمل مبعوث مسيلمة رد الرسول عليه السلام الى مسيلمة الذي ازداد ضلالا واضلالا..

    *
    ومضى الكذب ينشر افكه وبهتانه، وازداد أذاه للمؤمنين وتحريضه عليهم، فرأى الرسول أن يبعث اليه رسالة ينهاه فيها عن حماقاته..

    ووقع اختياره على حبيب بن زيد ليحمله الرسالة مسيلمة..

    وسافر حبيب يغذّ الخطى، مغتبطا بالمهمة الجليلة التي ندبه اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنّيا نفسه بأن يهتدي الى الحق، قلب مسيلمة فيذهب حبيب بعظيم الأجر والمثوبة.

    **

    وبلغ المسافر غايته..

    وفضّ مسيلمة الكذاب الرسالة التي أعشاه نورها، فازداد امعانا في ضلاله وغروره..

    ولما لم يكن مسيلمة أكثر من أفّاق دعيّ، فقد تحلى بكل صفات الأفّاقين الأدعياء..!!

    وهكذا لم يكن معه من المروءة ولا من العروبة والرجولة ما يردّه عن سفك دم رسول يحمل رسالة مكتوبة.. الأمر الذي كانت العرب تحترمه وتقدّسه..!!

    وأراد قدر هذا الدين العظيم، الاسلام، أن يضيف الى دروس العظمة والبطولة التي يلقيها على البشرية بأسرها، درسا جديدا موضوعه هذه المرة، وأستاذه أيضا، حبيب بن زيد..!!

    **
    جمع الكذاب مسيلمة قومه، وناداهم الى يوم من أيامه المشهودة..

    وجيء بمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبيب بن زيد، يحمل آثار تعذيب شديد أنزله به المجرمون، مؤملين أن يسلبوا شجاعة روحه، فيبدو امام الجميع متخاذلا مستسلما، مسارعا الى الايمان بمسيلمة حين يدعى الى هذا الايمان أمام الناس.. وبهذا يحقق الكذاب الفاشل معجزة موهومة أمام المخدوعين به..

    **

    قال مسيلمة لـ حبيب:

    " أتشهد أن محمدا رسول الله..؟

    وقال حيب:

    نعم أشهد أن محمدا رسول الله.

    و**ت صفرة الخزي وجه مسيلمة وعاد يسألأ:

    وتشهد أني رسول الله..؟؟

    وأجاب حبيب في سخرية قاتلة:

    اني لا أسمع شيئا..!!

    وتحوّلت صفرة الخزي على وجه مسيلمة الى سواد حاقد مخبول..

    لقد فشلت خطته، ولم يجده تعذيبه، وتلقى أمام الذين جمعهم ليشهدوا معجزته.. تلقى لطمة قوية أشقطت هيبته الكاذبة في الوحل..

    هنالك هاج كالثور المذبوح، ونادى جلاده الذي أقبل ينخس جسد حبيب بسنّ سيفه..

    ثم راح يقطع جسده قطعة قطعة، وبضعة بضعة، وعضوا عضوا..

    والبطل العظيم لا يزيد على همهمة يردد بها نشيد اسلامه:

    " لا اله الا الله محمد رسول الله"..

    **

    لو أن حبيبا أنقذ حياته يومئذ بشيء من المس***ة الظاهرة لمسيلمة، طاويا على الايمان صدره، لما نقض ايمانه شيئا، ولا أصاب اسلامه سوء..

    ولكن الرجل الذي شهد مع أبيه، وأمه، وخالته، وأخيه بيعة العقبة، والذي حمل منذ تلك اللحظات الحاسمة المباركة مسؤولية بيعته وايمانه كاملة غير منقوصة، ما كان له أن يوازن لحظة من نهار بين حياته ومبدئه..

    ومن ثمّ لم يكن أمامه لكي يربح حياته كلها مثل هذه الفرصة الفريدة التي تمثلت فيها قصة ايمانه كلها.. ثبات، وعظمة، وبطولة، وتضحية، واستشهاد في سبيل الهدى والحق يكاد يفوق في حلاوته، وفي روعته كل ظفر وكل انتصار..!!

    **
    وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ استشهاد مبعوثه الكريم، واصطبر لحكم ربه، غهو يرى بنور الله مصير هذا الكذاب مسيلمة، ويكاد يرى مصرعه رأي العين..

    أما نسيبة بنت كعب أم حبيب فقد ضغطت على أسنانها طويلا، ثم أطلقت يمينا مبررا لتثأرن لولدها من مسيلمة ذاته، ولتغوصنّ في لحمه الخبيث برمحها وسيفها..

    وكان القدر الذي يرمق آنئذ جزعها وصبرها وجلدها، يبدي اعجابا كبيرا بها، ويقرر في نفس الوقت أن يقف بجوارها حتى تبرّ بيمينها..!!

    ودارت من الزمان دورة قصيرة.. جاءت على أثرها الموقعة الخالدة، موقعة اليمامة..
    وجهّز أبو بكر الصدّيق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الاسلام الذاهب الى اليمامة حيث أعدّ مسيلمة أضخم جيش..

    وخرجت نسيبة مع الجيش..

    وألقت بنفسها في خضمّ المعركة، في يمناها سيف، وفي يسراها رمح، ولسانها لا يكفّ عن الصياح:

    " أين عدوّ الله مسيلمة".؟؟

    ولما قتل مسيلمة، وسقط أتباعه كالعهن المنفوش، وارتفعت رايات الاسلام عزيزة ظافرة.. وقفت نسيبة وقد ملىء جسدها الجليل، القوي بالجراح وطعنات الرمح..

    وقفت تستجلي وجه ولدها الحبيب، الشهيد حبيب فوجدته يملأ الزمان والمكان..!!

    أجل..

    ما صوّبت نسيبة بصرها نحو راية من الرايات الخفاقة المنتصرة الضاحكة الا رأت عليها وجه ابنها حبيب خفاقا.. منتصرا.. ضاحكا
    [IMG]]

  5. #5
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    وسوف نكمل معا باقى حبات اللؤلؤ

    و اليوم موعدنا مع ( خباب بن الأرت - أستاذ فنّ الفداء)

    خرج نفر من القرشيين، يغدّون الخطى، ميممين شطر دار خبّاب ليتسلموا منه سيوفهم التي تعاقدوا معه على صنعها..

    وقد كان خباب سيّافا، يصنع السيوف ويبيعها لأهل مكة، ويرسل بها الى الأسواق..

    وعلى غير عادة خبّاب الذي لا يكاد يفارق بيته وعمله، لم يجده ذلك النفر من قريش فجلسوا ينتظرونه..

    وبعد حين طويل جاء خباب على وجهه علامة استفهام مضيئة، وفي عينيه دموع مغتبطة.. وحيّا ضيوفه وجلس..

    وسألوه عجلين: هل أتممت صنع السيوف يا خباب؟؟

    وجفت دموع خباب، وحل مكانها في عينيه سرور متألق، وقال وكأنه يناجي نفسه: ان أمره لعجب..

    وعاد القوم يسألونه: أي أمر يا رجل..؟؟ نسألك عن سيوفنا، هل أتممت صنعها..؟؟
    ويستوعبهم خبّاب بنظراته الشاردة الحالمة ويقول:

    هل رأيتموه..؟ هل سمعتم كلامه..؟

    وينظر بعضهم لبعض في دهشة وعجب..

    ويعود أحدهم فيسأله في خبث:

    هل رأيته أنت يا خبّاب..؟؟

    ويسخر خبّاب من مكر صاحبه، فيردّ عليه السؤال قائلا:

    من تعني..؟

    ويجيب الرجل في غيظ: أعني الذي تعنيه..؟

    ويجيب خبّاب بعد اذ أراهم أنه أبعد منالا من أن يستدرج، وأنه اعترف بايمانه الآن أمامهم، فليس لأنهم خدعوه عن نفسه، واستدرجوا لسانه، بل لأنه رأى الحق وعانقه، وقرر أن يصدع به ويجهر..

    يجيبهم قائلا، وهو هائم في نشوته وغبطة روحه:

    أجل... رأيته، وسمعته.. رأيت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتلألأ بين ثناياه..!!

    وبدأ عملاؤه القرشيون يفهمون، فصاح به أحدهم:

    من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أمّ أنمار..؟؟

    وأجاب خبّاب في هدء القديسين:

    ومن سواه، يا أخا العرب.. من سواه في قومك، من يتفجر من جوانبه الحق، ويخرج النور بين ثناياه..؟!

    وصاح آخر وهبّ مذعورا:

    أراك تعني محمدا..

    وهز خبّاب رأسه المفعم بالغبطة، وقال:

    نعم انه هو رسول الله الينا، ليخرجنا من الظلمات الى االنور..

    ولا يدري خبّاب ماذا قال بعد هذه الكلمات، ولا ماذا قيل له..

    كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة ليرى زوّاره قد انفضوا.. وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما، ودمه النازف يضمّخ ثوبه وجسده..!!

    وحدّقت عيناه الواسعتان فيما حوله.. وكان المكان أضيق من أن يتسع لنظراتهما النافذة، فتحمّل على آلامه، ونهض شطر الفضاء وأمام باب داره وقف متوكئا على جدارها، وانطلقت عيناه الذكيتان في رحلة طويلة تحدّقان في الأفق، وتدوران ذات اليمين وذات الشمال..انهما لا تقفان عند الأبعاد المألوفة للناس.. انهما تبحثان عن البعد المفقود...أجل تبحثان عن البعد المفقود في حياته، وفي حياة الناس الذين معه في مكة، والناس في كل مكان وزمان..

    ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من محمد عليه الصلاة والسلام اليوم، هو النور الذي يهدي الى ذلك البعد المفقود في حياة البشر كافة..؟؟

    واستغرق خبّاب في تأمّلات سامية، وتفكير عميق.. ثم عاد الى داخل داره.. عاد يضمّد جراح جسده، ويهيءه لاستقبال تعذيب جديد،

    وآلام جديدة..!!
    ومن ذلك اليوم أخذ خبّاب مكانه العالي بين المعذبين والمضطهدين..

    أخذ مكانه العالي بين الذين وقفوا برغم فقرهم، وضعفهم يواجهون كبرياء قريش وعنفها وجنونها..

    أخذ مكانه العالي بين الذين غرسوا في قلوبهم سارية الراية التي أخذت تخفق في الأفق الرحيب ناعية عصر الوثنية، والقيصرية.. مبشرة بأيام المستضعفين والكادحين، الذين سيقفون تحت ظل هذه الراية سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل، وأذاقوهم الحرمان والعذاب..

    وفي استبسال عظيم، حمل خبّاب تبعاته كرائد..

    يقول الشعبي:

    " لقد صبر خبّاب، ولم تلن له أيدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه"..!!

    أجل كان حظ خبّاب من العذاب كبيرا، ولكن مقاومته وصبره كانا أكبر من العذاب..

    لقد حوّل كفار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل خبّاب والذي كان يصنع منه السيوف.. حولوه كله الى قيود وسلاسل، كان يحمى عليها في النار حتى تستعر وتتوهج، ثم يطوّق بها جسده ويداه وقدماه..

    ولقد ذهب يوما مع بعض رفاقه المضطهدين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا جوعين من التضحية، بل راجين العافية، فقالوا:" يا رسول الله.. ألا تستنصر لنا..؟؟" أي تسأل الله لنا النصر والعافية...

    ولندع خبّابا يروي لنا النبأ بكلماته:

    " شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرد له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا..؟؟

    فجلس صلى الله عليه وسلم، وقد احمرّ وجهه وقال:

    قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل، فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار، فيجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه..!!

    وليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الله الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون"..!!

    سمع خبّاب ورفاقه هذه الكلمات، فازداد ايمانهم واصرارهم وقرروا أن يري كل منهم ربّه ورسوله ما يحبّان من تصميم وصبر، وتضحية.

    وخاض خبّاب معركة الهول صابرا، صامدا، محتسبا.. واستنجد القرشيون أم أنمار سيدة خبّاب التي كان عبدا لها قبل أن تعتقه، فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه..

    وكانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب، وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخبّاب يتلوى من الألم، لكنه يكظم أنفاسه، حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاديه..!!

    ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، والحديد المحمّى فوق رأسه يلهبه ويشويه، فطار قلبه حنانا وأسى، ولكن ماذا يملك عليه الصلاة والسلام يومها لخبّاب..؟؟

    لا شيء الا أن يثبته ويدعو له..

    هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء، وقال:

    " اللهم أنصر خبّابا"..

    ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل، كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين، ذلك أنها أصيبت بسعار عصيب وغريب جعلها كما يقول المؤرخون تعوي مثل الكلاب..!!

    وقيل لها يومئذ لا علاج سوى أن يكوى رأسها بالنار..!!

    وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحمّى يصبّحه ويمسّيه..!!

    ***********

    كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب.. وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية.. وكان خبّاب واحدا من أولئك الذين اصطفتهم المقادير لتجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء..

    ومضى خبّاب ينفق وقته وحياته في خدمة الدين الذي خفقت أعلامه..

    ولم يكتف رضي الله عنه في أيام الدعوة الأولى بالعبادة والصلاة، بل استثمر قدرته على التعليم، فكان يغشى بيوت بعض اخوانه من المؤمنين الذين يكتمون اسلامهم خوفا من بطش قريش، فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم اياه..

    ولقد نبغ في دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية.. وسورة، سورة حتى ان عبدالله بن مسعود، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أراد أن يقرأ القرآن غصّا كما أنزل، فليقراه بقراءة ابن أم عبد"..

    نقول:

    حتى عبد الله بن مسعود كان يعتبر خبّابا مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة..
    وهو الذي كان يدرّس القرآن لـ فاكمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد عندام فاجأهم عمر بن الخطاب متقلدا سيفه الذي خرج به ليصفي حسابه مع الاسلام ورسوله، لكنه لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة التي كان يعلّم منها خبّاب، حتى صاح صيحته المباركة:

    " دلوني على محمد"...!!
    وسمع خبّاب كلمات عمر هذه، فخرج من مخبئه الذي كان قد توارى فيه وصاح:

    " يا عمر..

    والله اني لأرجوا أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فاني سمعته بالأمس يقول: اللهم أعز الاسلام بأحبّ الرجلين اليك.. أبي الحكم بن هشام، وعمربن الخطاب"..

    وسأله عمر من فوره: وأين أجد الرسول الآن يا خبّاب:

    " عند الصفا، في دار الأرقم بن أبي الأرقم"..

    ومضى عمر الى حظوظه الوافية، ومصيره العظيم..!!

    **
    شهد خبّاب بن الأرت جميع المشهد والغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش عمره كله حفيظا على ايمانه ويقينه....

    وعندما فاض بيت مال لمسلمين بالمال أيام عمر وعثمان، رضي الله عنهما، كان خبّاب صاحب راتب كبير بوصفه من المهاجرين لسابقين الى الاسلام..

    وقد أتاح هذا الدخل الوفير لخبّاب أن يبتني له دارا بالكوفة، وكان يضع أمواله في مكان ما من الدار يعرفه أصحابه وروّاده.. وكل من وقعت عليه حاجة، يذهب فيأخذ من المال حاجته..

    ومع هذا فقد كان خبّاب لا يرقأ له جفن، ولا تجف له دمعة كلما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين بذلوا حياهم للله، ثم ظفروا بلقائه قبل أن تفتح الدنيا على المسلمين، وتكثر في أيديهم الأموال.

    اسمعوه وهو يتحدث االى عوّاده الذين ذهبوا يعودونه وهو رضي الله عنه في مرض موته.

    قالوا له:

    أبشر يا أبا عبدالله، فانك ملاق اخواتك غدا..

    فأجابهم وهو يبكي:

    " أما انه ليس بي جزع .. ولكنكم ذكّرتموني أقواما، واخوانا، مضوا بأجورهم كلها ام ينالوا من الدنيا شيئا..

    وانّا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا الا التراب"..

    وأشار الى داره المتواضعة التي بناها.

    ثم أشار مرة أخرى الى المكان الذي فيه أمواله وقال:

    " والله ما شددت عليها من خيط، ولا منعتها من سائل"..!

    ثم التفت الى كنفه الذي كان قد أعدّ له، وكان يراه ترفا واسرافا وقال ودموعه تسيل:

    " أنظروا هذا كفني..

    لكنّ حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجد له كفن يوم استشهد الا بردة ملحاء.... اذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، واذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه"..!!

    ***********************

    ومات خبّاب في السنة السابعة والثلاثين للهجرة..

    مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية..

    وأستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام..!!


    مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم، ويحييهم، عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، وللفراء من أمثال :خبّاب، وصهيب، وبلال يوما آخر.

    فاذا القرآن العظيم يختص رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم، وتهل آياته قائلة للرسول الكريم:

    ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟! أليس الله بأعلم بالشاكرين واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة)..

    وهكذا، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراهم بعد نزول الآيات حتى يبالغ في اكرامهم فيفرش لهم رداءه، ويربّت على أكتافهم، ويقول لهم:

    " أهلا بمن أوصاني بهم ربي"..

    أجل.. مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي، وجيل التضحية...

    ولعل خير ما نودّعه به، كلمات الامام علي كرّم الله وجهه حين كان عائدا من معركة صفين، فوقعت عيناه على قبر غضّ رطيب، فسأل: قبر من هذا..؟

    فأجابوه: انه قبر خبّاب..

    فتملاه خاشعا آسيا، وقال:

    رحم الله خبّابا..

    لقد أسلم راغبا.

    وهاجر طاءعا..

    وعاش مجاهدا..
    [IMG]]

  6. #6
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    الطفيل بن عمرو الدوسي - الفطرة الراشدة


    في أرض دوس نشأ بين أسرة شريفة كريمة..

    وأوتي موهبة الشعر، فطار بين القبائل صيته ونبوغه..

    وفي مواسم عكاظ حيث يأتي الشعراء العرب من كل فج ويحتشدون ويتباهون بشعرائهم، كان الطفيل يأخذ مكانه في المقدمة..

    كما كان يتردد على مكة كثيرا في غير مواسم عكاظ..

    وذات مرة كان يزورها، وقد شرع الرسول يجهر بدعوته..
    وخشيت قريش أن يلقاه الطفيل ويسلم، ثم يضع موهبته الشعرية في خدمة الاسلام، فتكون الطامة على قريش وأصنامها..

    من أجل ذلك أحاطوا به.. وهيئوا له من الضيافة كل أسباب الترف والبهجة والنعيم، ثم راحوا يحذرونه لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون له:

    " ان له قولا كالسحر، يفرّق بين الرجل وابيه.. والرجل وأخيه.. والرجل وزوجته.. ونا نخشى عليك وعلى قومك منه، فلا تكلمه ولا تسمع منه حديثا"..!!

    ولنصغ للطفيل ذاته يروي لنا بقية النبأ فيقول:

    " فوالله ما زالوا بي حتى عزمت ألا أسمع منه شيئا ولا ألقاه..

    وحين غدوت الى الكعبة حشوت أذنيّ كرسفا كي لا أسمع شيئا من قوله اذا هو تحدث..

    وهناك وجدته قائما يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبي الله الا أن يسمعني بعض ما يقرأ، فسمعت كلاما حسنا..

    وقلت لنفسي: واثكل أمي.. والله اني لرجل لبيب شاعر، لا يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من الرجل ما يقول، فان كان الذي يأتي به حسن قبلته، وان كان قبيحارفضته.

    ومكثت حتى انصرف الى بيته، فاتبعته حتى دخل بيته، فدخلت وراءه، وقلت له: يا محمد، ان قومك قد حدثوني عنك كذا وكذا.. فوالله ما برحوا يخوّفوني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك..

    ولكن الله شاء أن أسمع، فسمعت قولا حسنا، فاعرض عليّ أمرك..

    فعرض الرسول عليّ الاسلام، وتلا عليّ من القرآن..

    فأسلمت، وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله: اني امرؤ مطاع في قومي واني راجع اليهم، وداعيهم الى الاسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونا لي فيما أدعهوهم اليه، فقال عليه السلام: اللهم اجعل له آية"..

    **************

    لقد أثنى الله تعالى في كتابه على " الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه"..

    وها نحن أولاء نلتقي بواحد من هؤلاء..

    انه صورة صادقة من صور الفطرة الرشيدة..

    فما كاد سمعه يلتقط بعض آيات الرشد والخير التي أنزلها الله على فؤاد رسوله، حتى تفتح كل سمعه، وكل قلبه. وحتى بسط يمينه مبايعا.. ليس ذلك فحسب.. بل حمّل نفسه من فوره مسؤولية دعوة قومه وأهله الى هذا الدين الحق، والصراط المستقيم..!

    من أجل هذا، نراه لا يكاد يبلغ بلده وداره في أرض دوس حتى يواجه أباه بالذي من قلبه من عقيدة واصرار، ويدعو أباه الى الاسلام بعد أن حدّثه عن الرسول الذي يدعو الى الله.. حدثه عن عظمته.. وعن طهره وأمانته.. عن اخلاصه واخباته لله رب العالمين..

    وأسلم أبوه في الحال..

    ثم انتقل الى أمه، فأسلمت

    ثم الى زوجه، فأسلمت..

    ولما اطمأن الى أن الاسلام قد غمر بيته، انتقل الى عشيرته، والى أهل دوس جميعا.. فلم يسلم منهم أحد سوى أبي هريرة رضي الله عنه..

    ولقد راحوا يخذلونه، وينأون عنه، حتى نفذ صبره معهم وعليهم. فركب راحلته، وقطع الفيافي عائدا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو اليه ويتزوّد منه بتعاليمه..

    وحين نزل مكة، سارع الى دار الرسول تحدوه أشواقه..

    وقال للنبي:

    " يا رسول الله..

    انه ق غلبني على دوس الزنى، والربا، فادع الله أن يهلك دوسا"..!!

    وكانت مفاجأة أذهلت الطفيل حين رأى الرسول يرفع كفيه الى السماء وهو يقول:

    " اللهم اهد دوسا وأت بهم مسلمين"..!!

    ثم التفت الى الطفيل وقال له:

    " ارجع الى قومك فادعهم وارفق بهم".

    ملأ هذا المشهد نفس الطفيل روعة، وملأ روحه سلاما، وحمد اله أبلغ الحمد أن جعل هذا الرسول الانسان الرحيم معلمه وأستاذه. وأن جعل الاسلام دينه وملاذه.

    ونهض عائدا الى أرضه وقومه وهناك راح يدعوهم الى الاسلام في أناة ورفق، كما أوصاه الرسول عليه السلام.

    وخلال الفترة التي قضاها بين قومه، كان الرسول قد هاجر الى المدينة وكانت قد وقعت غزوة بدر، أحد والخندق.

    وبينما رسول الله في خيبر بعد أن فتحها الله على المسلمين اذا موكب حافل ينتظم ثمانين اسرة من دوس أقبلوا على الرسول مهللين مكبّرين ..

    وبينما جلسوا يبايعون تباعا..

    ولما فرغوا من مشهدهم الحافل، وبيعتهم المباركة جلس الطفيل بن عمرو مع نفسه يسترجع ذكرياته ويتأمل خطاه على الطريق..!!

    تذكر يوم قدوم الرسول يسأله أن يرفع كفيه الى السماء ويقول:

    اللهم اهلك دوسا، فاذا هو يبتهل بدعاء آخر أثار يومئذ عجبه..

    ذلك هو:

    " اللهم اهد دوسا وأت بهم مسلمين"..!!

    ولقد هدى الله دوسا..

    وجاء بهم مسلمين..

    وها هم أولاء.. ثمانون بيتا، وعائلة منهم، يشكلون أكثرية أهلها، يأخذون مكانهم في الصفوف الطاهرة خلف رسول الله الأمين.

    **

    ويواصل الطفيل عمله مع الجماعة المؤمنة..

    ويوم فتح مكة، كان يدخلها مع عشرة آلاف مسلم لا يثنون أعطافهم زهوا وصلفا، بل يحنون جباههم في خشوع واذلال، شكرا لله الذي أثابهم فتحا قريبا، ونصرا مبينا..

    ورأى الطفيل رسول الله وهو يهدم أصنام الكعبة، ويطهرها بيده من ذلك الرجس الذي طال مداه..

    وتذكر الدوسي من فوره صنما كان لعمرو بن حممة. طالما كان عمرو هذا يصطحبه اليه حين ينزل ضيافته، فيتخشّع بين يديه، ويتضرّع اليه..!!

    الآن حانت الفرصة ليمحو الطفيل عن نفسه اثم تلك الأيام.. هنالك تقدم من الرسول عليه الصلاة والسلام يستأذنه في أن يذهب ليحرق صنم عمرو بن حممة وكان هذا الصنم يدعى، ذا الكفين، وأذن له النبي عليه السلام..

    ويذهب الطفيل ويوقد عليه النار.. وكلما خبت زادها ضراما وهو ينشد ويقول:

    يا ذا الكفين لست من عبّادكا

    ميلادنا أقدم من ميلادكا!!

    اني حشوت النار في فؤادكا

    وهكذا عاش مع النبي يصلي وراءه، ويتعلم منه، ويغزو معه.

    وينتقل الرسول الى الرفيق الأعلى، فيرى الطفيل أن مسؤوليته كمسلم لم تنته بموت الرسول، بل انها لتكاد تبدأ..

    وهكذا لم تكد حروب الردة تنشب حتى كان الطفيل يشمّر لها عن ساعد وساق، وحتى كان يخوض غمراتها وأهوالها في حنان مشتاق الى الشهادة..

    اشترك في حروب الردة حربا.. حربا..

    وفي موقعة اليمامة خرج مع المسلمين مصطحبا معه ابنه عمرو بن الطفيل".

    ومع بدء المعركة راح يوضي ابنه أن يقاتل جيش مسيلمة الكذاب قتال من يريد الموت والشهادة..

    وأنبأه أنه يحس أنه سيموت في هذه المعركة.

    وهكذا حمل سيفه وخاض القتال في تفان مجيد..

    لم يكن يدافع بسيفه عن حياته.

    بل كان يدافع بحياته عن سيفه.

    حتى اذا مات وسقط جسده، بقي السيف سليما مرهفا لتضرب به يد أخرى لم يسقط صاحبها بعد..!!

    وفي تلك الموقعة استشهد الطفيل الدوسي رضي الله عنه..

    وهو جسده تحت وقع الطعان، وهو يلوّح لابنه الذي لم يكن يراه وسط الزحام..!!

    يلوّح له وكأنه يهيب به ليتبعه ويلحق به..

    ولقد لحق به فعلا.. ولكن بعد حين..

    ففي موقعة اليرموك بالشام خرج عمرو بن الطفيل مجاهدا وقضى نحبه شهيدا..

    وكان وهو يجود بأنفاسه، يبسط ذراعه اليمنى ويفتح كفه، كما لو كان سيصافح بها أحدا.. ومن يدري..؟؟

    لعله ساعتئذ كان يصافح روح أبيه
    [IMG]]

  7. #7
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    سالم مولى أبي حذيفة - بل نعم حامل القرآن

    أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما، فقال:

    " خذوا القرآن من أربعة:

    عبدالله بن مسعود..

    وسالم مولى أبي حذيفة..

    وأبيّ بن كعب..

    ومعاذ بن جبل.."

    فمن هذا الصحابي الثانى الذي جعله الرسول حجّة في تعليم القرآن ومرجعا..؟؟
    انه سالم، مولى أبي حذيفة..

    كان عبدا رقيقا، رفع الاسلام من شأنه حتى جعل منه ابنا لواحد من كبار المسلمين كان قبل اسلامه شريفا من أشراف قريش، وزعيما من زعمائها..

    ولما أبطل الاسلام عادة التبني، صار أخا ورفيقا، ومولى للذي كان يتبناه وهو الصحابي الجليل: أبو حذيفة بن عتبة..

    وبفضل من الله ونعمة على سالم بلغ بين المسلمين شأوا رفيعا وعاليا، أهّلته له فضائل روحه، وسلوكه وتقواه.. وعرف الصحابي الجليل بهذه التسمية: سالم مولى أبي حذيفة.

    ذلك أنه كان رقيقا وأعتق..

    وآمن باله ايمانا مبكرا..

    وأخذ مكانه بين السابقين الأولين..

    وكان حذيفة بن عتبة، قد باكر هو الآخر وسارع الى الاسلام تاركا أباه عتبة بن ربيعة يجتر مغايظه وهموهه التي عكّرت صفو حياته، بسبب اسلام ابنه الذي كان وجيها في قومه، وكان أبوه يعدّه للزعامة في قريش..

    وتبنى أبو حذيفة سالما بعد عتقه، وصار يدعى بسالم بن أبي حذيفة..

    وراح الاثنان يعبدان ربهما في اخبات، وخشوع.. ويصبران أعظم الصبر على أذى قريش وكيدها..

    وذات يوم نزلت آية القرآن التي تبطل عادة التبني..

    وعاد كل متبني ليحمل اسم أبيه الحقيقي الذي ولده وأنجبه..

    فـ زيد بن حارثة مثل، الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه، وعرف بين المسلمين بزيد بن محمد، عاد يحمل اسم أبيه حارثة فصار زيد بن جارثة ولكنّ سالما لم يكن يعرف له أب، فوالى أبا حذيفة، وصار يدعى سالم مولى أبي حذيفة..

    ولعل الاسلام حين أبطل عادة التبني، انما أراد أن يقول للمسلمين لا تلتمسوا رحما، ولا قربى، ولا صلة توكدون بها اخاءكم، أكبر ولا أقوى من الاسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها اخوانا..!!

    ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيدا..

    فلم يكن شيء أحب الى أحدهم بعد الله ورسوله، من اخزوانهم في الله وفي الاسلام..

    ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار اخوانهم المهاجرين، فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكل ما يملكون..!!

    وهذا هو الذي رأينا يحدث بين أبي حذيفة الشريف في قريش، مع سالم الذي كان عبدا رقسقا، لا يعرف أبوه..

    لقد ظلا الى آخر لحظة من حياتهما أكثر من اخوين شقيقين حتى عند الموت ماتا معا.. الروح مع الروح.. والجسد الى جوار الجسد..!!

    تلك عظمة الاسلام الفريدة..

    بل تلك واحدة من عظائمه ومزاياه..!!

    ******//////*******////////*****
    لقد آمن سالم ايمان الصادقين..

    وسلك طريقه الى الله سلوك الأبرار المتقين..

    فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أي اعتبار..

    لقد ارتفع بتقواه واخلاصه الى أعلى مراتب المجتمع الجديد الذي جاء الاسلام يقيمه وينهضه على أساس جديد عادل عظيم...

    أساس تلخصه الآية الجليلة:

    " ان أكرمكم عند الله أتقاكم"..!!

    والحديث الشريف:

    " ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى"..

    و" ليس لابن البضاء على ابن السوداء فضل الا بالتقوى"..

    **////******///////********
    في هذا المجتمع الجديد الراشد، وجد أبو حذيفة شرفا لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبدا..

    بل ووجد شرفا لأسرته، أن يزوج سالما ابنه أخيه فاطمة بنت الوليد بنت عتبة..!!

    وفي هذا المجتمع الجديد، والرشيد، الذي هدّم الطبقية الظالمة، وأبطل التمايز الكاذب، وجد سالم بسبب صدقه، وايمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصف الأول دائما..!!

    أجل.. لقد كان امام للمهاجرين من مكة الى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء..

    وكان حجة في كتاب الله، حتى أمر النبي المسلمين أن يتعلموا منه..!!

    وكان معه من الخير والتفوق ما جعل الرسول عليه السلام يقول له:

    " الحمد لله، الذي جعل في أمتي مثلك"..!!

    وحتى كان اخوانه المؤمنين يسمونه:

    " سالم من الصالحين"..!!

    ان قصة سالم كقصة بلال وكقصة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض عنهم عوادي الرق والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرشاد أئمة، وزعماء وقادة..

    كان سالم ملتقى لكل فضائل الاسلام الرشيد..

    كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان ايمانه العميق الصادق ينسقها أجمل تنسيق.

    وكان من أبرز مزاياه الجهر بما يراه حقا..

    انه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها..

    ولا يخون الحياة بالسكوت عن خطأ يؤدها..
    *******/////**********
    بعد أن فتحت مكة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا الى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه السلام، انما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين..

    وكان على رأس احدى هذه السرايا خالد بن الوليد..

    وحين بلغ خالد وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيوف، ويرق الدماء..

    هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها، اعتذر الى ربه طويلا، وهو يقول:

    " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد"..!!

    والتي ظل أمير المؤمنين عمر يذكرها له ويأخذها عليه، ويقول:

    " ان في سيف خالد رهقا"..

    وكان يصحب خالد في هذه السرية سالم مولى أبي حذيفة مع غيره من الأصحاب..

    ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكبت..

    وخالد البطل القائد، والبطل العظيم في الجاهلية، والاسلام، ينصت مرة ويدافع عن نفسه مرة ثانية ويشتد في القول مرة ثالثة وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيّب أو مداراة..

    لم يكن سالم آنئذ ينظر الى خالد كشريف من أشراف مكة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقا.

    لا.. فقد سوّى الاسلام بينهما..!!

    ولم يكن ينظر اليه كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب..

    ولم يكن يصدر في معارضته خالدا عن غرض، أو سهوه، بل هي النصيحة التي قدّس الاسلام حقها، والتي طالما سمع نبيه عليه الصلاة والسلام يجعلها قوام الدين كله حين يقول:

    " الدين النصيحة..

    الدين النصيحة..

    الدين النصيحة".

    **********************
    ولقد سأل الرسول عليه السلام، عندما بلغه صنيع خالد بن الوليد..

    سأل عليه السلام قائلا:

    " هل أنكر عليه أحد"..؟؟

    ما أجله سؤالا، وما أروعه..؟؟!!

    وسكن غضبه عليه السلام حين قالوا له:

    " نعم.. راجعه سالم وعارضه"..

    وعاش سالم مع رسوله والمؤمنين..

    لا يتخلف عن غزوة ولا يقعد عن عبادة..

    وكان اخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانيا وتماسكا..

    **
    وانتقل الرسول الى الرفيق الأعلى..

    وواجهت خلافة أبي كبر رضي الله عنه مؤامرات المرتدّين..

    وجاء يوم اليمامة..

    وكانت حربا رهبة، لم يبتل الاسلام بمثلها..

    وخرج المسلمون للقتال..

    وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة..

    وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن أن المعركة معركته، والمسؤولية مسؤوليته..

    وجمعهم خالد بن الوليد من جديد..

    وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة..

    وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة..

    وقذفا نفسيهما في الخضمّ الرّهيب..!!

    كان أبو حذيفة ينادي:

    " يا أهل القرآن..

    زينوا القرآن بأعمالكم".

    وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب.

    وكان سالم يصيح:

    " بئس حامل القرآن أنا..

    لو هوجم المسلمون من قبلي"..!!

    حاشاك يا سالم.. بل نعم حامل القرآن أنت..!!
    وكان سيفه صوّال جوّال في أعناق المرتدين، الذين هبوا ليعيدوا جاهلية قريش.. ويطفؤا نور الاسلام..
    وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب...
    ولما رأى يمناه تبتر، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها الى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة:
    ( وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)...

    ألا أعظم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعارا له..!!

    **
    وأحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل.. ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل نسلمة الكذاب واندحار جيش مسيلمة وانتصار المسلمين..

    وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالما في النزع الأخير..

    وسألهم:

    ما فعل أبو حذيفة..؟؟

    قالوا: استشهد..

    قال: فأضجعوني الى جواره..

    قالوا: انه الى جوارك يا سالم.. لقد استشهد في نفس المكان..!!

    وابتسم ابتسامته الأخيرة..

    ولم يعد يتكلم..!!

    لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!!

    معا أسلما..

    ومعا عاشا..

    ومعا استشهدا..

    يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!!

    وذهب الى الله، المؤمن الكبير الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يموت:

    " لو كان سالم حيّا، لوليته الأمر من بعدي"..!!
    [IMG]]

  8. #8
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    أخوانى احبائى فى الله
    نتشرف اليوم بأن يكون معنا

    ( سعيد بن عامر - العظمة تحت الاسمال )
    أيّنا سمع هذا الاسم، وأيّنا سمع به من قبل..؟

    أغلب الظن أن أكثنا، ان لم نكن جميعا، لم نسمع به قط.. وكأني بكم اذ تطالعونه الآن تتساءلون: ومن يكون عامر هذا..؟؟

    أجل سنعلم من هذا السعيد..!!
    انه واحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وان لم يكن لاسمه ذلك الرنين المألوف لأسماء كبار الصحابة.

    انه واحد من كبار الأتقياء الأخفياء..!!

    ولعل من نافلة القول وتكراره، أن ننوه بملازمته رسول الله في جميع مشاهده وغزواته.. فذلك كان نهج المسلمين جميعا. وما كان لمؤمن أن يتخلف عن رسول الله في سلم أو جهاد.

    أسلم سعيد قبيل فتح خيبر، ومنذ عانق الاسلام وبايع الرسول، أعطاهما كل حياته، ووجوده ومصيره.

    فالطاعة، والزهد، والسمو.. والاخبات، والورع، والترفع.

    كل الفضائل العظيمة وجدت في هذا الانسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبيرا..

    وحين نسعى للقاء عظمته ورؤيتها، علينا أن نكون من الفطنة بحيث لا نخدع عن هذه العظمة وندعها تفلت منا وتتنكر..

    فحين تقع العين على سعيد في الزحام، لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل..

    ستجد العين واحدا من أفراد الكتيبة الانمية.. أشعث أغبر. . ليس في ملبسه، ولا في شكله الاخرجي، ما يميزه عن فقراء المسلمين بشيء.!!

    فاذا جعلنا من ملبسه ومن شكله الخارجي دليلا على حقيقته، فلن نبصر شيئا، فان عظمة هذا الرجل أكثر أصالة من أن تتبدى في أيّ من مظاهر البذخ والزخرف.

    انها هناك كامنة مخبوءة وراء بساطته وأسماله.

    أتعرفون اللؤلؤ المخبوء في جوف الصدف..؟ انه شيء يشبه هذا..

    ****************
    عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية عن ولاية الشام، تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه.

    وأسلوب عمر في اختيار ولاته ومعاونيه، أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر، والدقة، والأناة.. ذلك أنه كان يؤمن أن أي خطأ يرتكبه وال في أقصى الأرض سيسأل عنه الله اثنين: عمر أولا.. وصاحب الخطأ ثانيا..

    ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولاة مرهفة، ومحيطة،وبصيرة، أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا..

    والشام يومئذ حاضرة كبيرة، والحياة فيها قبل دخول الاسلام بقرون، تتقلب بين حضارات متساوقة.. وهي مركز هام لتجارة. ومرتع رحيب للنعمة.. وهي بهذا، ولهذا درء اغراء. ولا يصلح لها في رأي عمر الا قديس تفر كل شياطين الاغراء أمام عزوفه.. والا زاهد، عابد، قانت، أواب..

    وصاح عمر: قد وجدته، اليّ بسعيد بن عامر..!!

    وفيما بعد يجيء سعيد الى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولاية حمص..

    ولكن سعيجا يعتذر ويقول: " لا تفتنّي يا أمير المؤمنين"..

    فيصيح به عمر:

    " والله لا أدعك.. أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي.. ثم تتركوني"..؟؟!!

    واقتنع سعيد في لحظة، فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا الاقناع.

    أجل. ليس من العدل أن يقلدوه أمانتهم وخلافتهم، ثم ينركوه وحيدا..واذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن عامر، فأنّى لعمر من يعينه على تبعات الحكم الثقال..؟؟

    خرج سعيد الى حمص ومعه زوجته، وكانا عروسين جديدين، وكانت عروسه منذ طفولتها فائقة الجمال والنضرة.. وزوّده عمر بقدر طيّب من المال.

    ولما استقرّا في حمص أرادت زوجته أن تستعمل حقها كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر.. وأشارت هليه بأن يشتري ما يلزمهما من لباس لائق، ومتاع وأثاث.. ثم يدخر الباقي..

    وقال لها سعيد: ألا أدلك على خير من هذا..؟؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة، وسوقها رائجة، فلنعط المال م يتجر لنا فيه وينمّيه..

    قالت: وان خسرت تجارته..؟

    قال سعيد: سأجعل ضمانا عليه..!!

    قالت: فنعم اذن..

    وخرج سعيد فاشترى بعض ضروريات غعيشه المتقشف، ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين..

    ومرّت الأيام.. وبين الحين والحين تسأله زوجه عن تجارتهما وأيّان بلغت من الأرباح..

    ويجيبها سعيد: انها تجارة موفقة.. وان الرباح تنمو وتزيد.

    وذات يوم سألته نفس السؤال أمام قريب له كان يعرف حقيقة الأمر فابتسم. ثم ضحك ضحكة أوحت الى روع الزوجة بالشك والريب، فألحت عليه أن يصارحها الحديث، فقا لها: لقد تصدق بماله جكيعه من ذلك اليوم البعيد.

    فبكت زوجة سعيد، وآسفها أنها لم تذهب من هذا المال بطائل فلا هي ابتاعت لنفسها ما تريد، والا المال بقي..

    ونظر اليها سعيد وقد زادتها دموعها الوديعة الآسية جمالا وروعة.

    وقبل أن ينال المشهد الفاتن من نفسه ضعفا، ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيها أصحابه السابقين الراحلين فقال:

    " لقد كان لي أصحاب سبقوني الى الله... وما أحب أن أنحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها"..!!

    واذ خشي أن تدل عليه بجمالها، وكأنه يوجه الحديث الى نفسه معها:

    " تعلمين أن في الجنة من الحور العين والخيرات الحسان، ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعا، ولقهر نورها نور الشمس والقمر معا.. فلأن أضحي بك من أجلهن، أحرى أولى من أن أضحي بهن من أجلك"..!!

    وأنهى حديثه كما بدأه، هادئا مبتسما راضيا..

    وسكنت زوجته، وأدركت أنه لا شيء أفضل لهما من السير في طريق سعيد، وحمل النفس على محاكاته في زهده وتقواه..!!

    ***********

    كانت حمص أيامئذ، توصف بأنها الكوفة الثانية وسبب هذا الوصف، كثرة تمرّد أهلها واختلافهم على ولاتهم.

    ولما كانت الكوفة في العراق صاحبة السبق في هذا التمرد فقد أخذت حمص اسمها لما شابهتها...

    وعلى الرغم من ولع الحمصيين بالتمرّد كما ذكرنا، فقد هدى الله قلوبهم لعبده الصالح سعيد، فأحبوه وأطاعوه.

    ولقد سأله عمر يوما فقال: " ان أهل الشام يحبونك".؟

    فأجابه سعيد قائلا:" لأني أعاونهم وأواسيهم"..!

    بيد أن مهما يكن أهل حمص حب لسعيد، فلا مفر من أن يكون هناك بعض التذمر والشكوى.. على الأقل لتثبت حمص أنها لا تزال المانفس القوي لكوفة العراق...

    وتقدم البعض يشكون منه، وكانت شكوى مباركة، فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل، عجيب عجيب جدا..

    طلب عمر من الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواها، واحدة واحدة..

    فنهض المتحدث بلسان هذه المجموعة وقال: نشكو منه أربعا:

    " لا يخرج الينا حت يتعالى النهار..

    وا يجيب أحدا بليل..

    وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما الينا ولا نراه،

    وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا، وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"..

    وجلس الرجل:

    وأطرق عمر مليا، وابتهل الى الله همسا قال:

    " اللهم اني أعرفه من خير عبادك..

    اللهم لا تخيّب فيه فراستي"..

    ودعاه للدفاع عن نفسه، فقال سعيد:

    أما قولهم اني لا أخرج اليهم حتى يتعالى النهار..

    " فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب.. انه ليس لأهلي خادم، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه يختمر، ثم اخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج اليهم"..

    وتهلل وجه عمر وقال: الحمد للله.. والثانية..؟!

    وتابع سعيد حديثه:

    وأما قولهم: لا أجيب أحدا بليل..

    فوالله، لقد كنت أكره ذكر السبب.. اني جعلت النهار لهم،والليل لربي"..

    أما قولهم: ان لي يومين في الشهر لا أخرج فيهما...

    " فليس لي خادم يغسل ثوبي، وليس بي ثياب أبدّلها، فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين.. وفي آخر النهار أخرج اليهم ".

    وأما قولهم: ان الغشية تأخذني بين الحين والحين..

    " فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه، وحملوه على جذعه، وهم يقولون له: أحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائلا: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة..

    فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيتهو أنا يومئذ من المشركين، ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها، أرتجف خوفا من عذاب الله، ويغشاني الذي يغشاني"..

    وانتهت كلمات سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة..

    ولم يمالك عمر نفسه ونشوه، فصاح من فرط حبوره.

    " الحمد للله الذي لم يخيّب فراستي".!

    وعانق سعيدا، وقبّل جبهته المضيئة العالية...

    ***********

    أي حظ من الهدى ناله هذا الطراز من الخق..؟

    أي معلم كان رسول الله..؟

    اي نور نافذ، كان كتاب الله..؟؟

    وأي مدرسة ملهمة ومعلمة، كان الاسلام..؟؟

    ولكن، هل تستطيع الأرض أن تحمل فوق ظهرها عددا كثيرا من هذا الطراز..؟؟

    انه لو حدث هذا، لما بقيت أرضا، انها تصير فردوسا..

    أجل تصير الفردوس الموعود..

    ولما كان الفردوس لم يأت زمانه بعد فان الذين يمرون بالحياة ويعبرون الأرض من هذا الطراز المجيد الجليل.. قللون دائما ونادرون..

    وسعيد بن عامر واحد منهم..

    كان عطاؤه وراتبه بحكم عمله ووظيفته، ولكنه كان يأخذ منه ما يكفيه وزوجه.. ثم يوزع باقيه على بيوت أخرى فقيرة...

    ولقد قيل له يوما:

    " توسّع بهذا الفائض على أهلم وأصهارك"..

    فأجاب قائلا:

    " ولماذا أهلي وأصهاري..؟

    لا والله ما أنا ببائع رضا الله بقرابة"..

    وطالما كان يقال له:

    " توسّع وأهل بيتك في النفقة وخذ من طيّبات الحياة"..

    ولكنه كان يجيب دائما، ويردد أبدا كلماته العظيمة هذه:

    " ما أنا بالنتخلف عن الرعيل الأول، بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجمع الله عز وجل الناس للحساب، فيحيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف الحامام، فيقال لهم: قفوا للحساب، فيقولون: ما كان لنا شيء نحاسب عليه.. فيقول الله: صدق عبادي.. فيدخلون الجنة قبل الناس"..

    **

    وفي العام العشرين من الهجرة، لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة، وأتقى ما يكون قلبا، وأنضر ما يكون سيرة..

    لقد طال شوقه الى الرعيل الأول الذي نذر حياته لحفظه وعهده، وتتبع خطاه..

    أجل لقد طال شوقه الى رسوله ومعلمه.. والى رفاقه الأوّابين المتطهرين..

    واليوم يلاقيهم قرير العين، مطمئن النفس، خفيف الظهر..

    ليس معه ولا وراءه من أحمال الدنيا ومتاعها ما يثقل ظهره وكاهله،،

    ليس معه الا ورعه، وزهده، وتقاه، وعظمة نفسه وسلوكه..

    وفضائل تثقل الميزان، ولكنها لا تثقل الظهور..!!

    ومزايا هز بها صاحبها الدنيا، ولم يهزها غرور..!!

    *******************

    سلام على سعيد بن عامر..

    سلام عليه في محياه، وأ***ه..

    وسلام.. ثم سلام على سيرته وذكراه..

    وسلام على الكرام البررة.. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    __________________
    [IMG]]

  9. #9
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    حذيفة بن اليمان - عدوّ النفاق وصديق الوضوح


    خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه..

    خرجوا تسبقهم أشواقهم الى هذا الصحابي الجليل الذي سمعوا الكثير عو ورعه وتقاه.. وسمعوا أكثر عن بلائه العظيم في فتوحات العراق..

    واذ هم ينتظرون الموكب الوافد، أبصروا أمامهم رجلا مضيئا، يركب حمارا على ظهره اكاف قديم، وقد أسدل الرجل ساقيه، وأمسك بكلتا يديه رغيفا وملحا، وهو يأكل ويمضغ طعامه..!

    وحين توسط جمعهم، وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون، كاد صوابهم يطير..!!

    ولكن فيم العجب..؟!

    وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في اختيار عمر..؟!

    الحق أنهم معذورون، فما عهدت بلادهم أيام فارس، ولا قبل فارس ولاة من هذا الطراز الجليل.!!
    وسار حذيفة، والناس محتشدون حوله، وحافون به..

    وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم ينتظرون منه حديثا، ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال:

    " اياكم ومواقف الفتن"..!!

    قالوا:

    وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله..!!

    قال:

    " أبواب الأمراء"..

    يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه"..!

    وكان استهلالا بارعا، بقدر ما هو عجيب..!!

    واستعاد الانس موفورهم ما سمعوه عن واليهم الجديد، من أنه لا يمقت في الدنيا كلها ولا يحتقر من نقائصها شيئا أكثر مما يمقت النفاق ويحتقره.

    وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد، وعن منهجه في الحكم والولاية..
    **
    فـ حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق، وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة.

    ومنذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعنق ثلاثتهم الاسلام، والاسلام يزيد موهبته هذه مضاء وصقلا..

    فلقد عانق دينا قويا، نظيفا، شجاعا قويما.. يحتقر الجبن والنفاق، والكذب...
    وتأدّب على يدي رسول الله واضح كفق الصبح، لا تخفى عليهم من حياته، ولا من أعماق نفسه خافية.. صادق وأمين..يحب الأقوياء في الحق، ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين..!!
    فلم يكن ثمة مجال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر مثل هذا المجال، في رحاب هذا الدين، وبين يدي هذا الرسول، ووسط هذا ارّعيل العظيم من الأصحاب..!!

    ولقد نمت موهبته فعلا أعظم نماء.. وتخصص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة.. ويبلوكنه الأعماق المستترة، والدخائل المخبوءة. في غير عناء..

    ولقد بلغ من ذلك ما يريد، حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو الملهم الفطن الأريب، يستدل برأي حذيفة، وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.

    ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده.. وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى، ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه، ومظانه..

    وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار، والنفاق والمؤمنين..

    يقول:

    " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..

    قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟

    قال: نعم..

    قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟

    قال: نعم، وفيه دخن..

    قلت: وما طخنه..؟

    قال: قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..

    قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟

    قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها..

    قلت: يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟

    قال: تلزم جماعة المسلمين وامامهم..

    قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام..؟؟

    قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!!

    أرأيتم قوله:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"..؟؟
    لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن، مسالك الشرور ليتقها، وليحذر الناس منها. ولقد أفاء عليه هذا بصرا بالدنيا، وخبرة بالانس، ومعرفة بالزمن.. وكلن يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف، وحصانة حكيم...
    ويقول رضي الله عنه:

    " ان اله تعالى بعث محدا صلى الله عليه وسلم، فدعا الانس من الضلالة الى الهدى، ومن الكفر الى الايمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتا...

    ومات بالباطل من كان حيا..

    ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها..

    ثم يكون ملكا عضوضا..!!

    فمن الانس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا لحق..

    ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافا يده، فهذا ترك شعبة من الحق..

    ومنهم من ينكر بقلبه، كافا يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق..

    ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء"...!
    ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها فيقول:

    " القلوب أربعة:

    قلب أغلف، فذلك قلب الكافر..

    وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق..

    وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن..
    وقلب فيه نفاق وايمان، فمثلالايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب، غلب"...!!
    وخبرة حذيفة بالشر، واصراره على مقاومته وتحدّيه، أ**با لسانه وكلماته شيئا من الحدّة، وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة:

    فيقول:

    " جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ان لي لسانا ذربا على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار..

    فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من الاستغفار..؟؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"...
    **
    هذا هو حذيفة عدو النفاق، صديق الوضوح..

    ورجل من هذا الطراز، لا يكون ايمانه الا وثيقا.. ولا يكون ولاؤه الا عميقا.. وكذلكم كان حذيفة في ايمانه وولائه..

    لقد رأى أباه المسلم يصرع يوم أحد..وبأيد مسلمة، قتلته خطأ وهي تحسبه واحدا من المشريكن..!!

    وكان حذيفة يتلفت مصادفة، فرأى السيوف تنوشه، فصاح في ضاربيه: أبي... أبي.. انه أبي..!!

    لكن القضاء كان قد حم..

    وحين عرف المسلمون، تولاهم الحزن والوجوم.. لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة، وقال:

    " يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين"..

    ثم انطلق بسيفه صوب المعركة المشبوبة يبلي فيها بلاءه، ويؤدي واجبه..

    وتنتهي المعركة، ويبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي الله عنه، ويتصدّق بها على المسلمين، فيزداد الرسول حبا له وتقديرا...
    **
    وايمان حذيفة وولاؤه، لا يعترفان

    بالعجز، ولا بالضعف..بل ولا بالمستحيل....

    في غزوة الحندق..وبعد أن دبّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود، أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقف على آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه.

    كان اليل مظلما ورهيبا.. وكانت العواصف تزأر وتصطخب، كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها.. وكان الموقف كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع، وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم..

    فمن يملك آنئذ القوة،وأي قوة ليذهب وسط مخاطر حالكة الى معسكر الأعداء ويقتحمه، أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم..؟؟

    ان الرسول هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر..

    ترى من يكون البطل..؟

    انه هو..حذيفة بن اليمان..!

    دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فلبى، ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك الا أن يلبي.. مشيرا بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه، ويخشى عواقبها، والقيام بها تحت وطأة الجوع، والصقيع، والاعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار المشركين شهرا أو يزيد..!

    وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا...

    فاقد قطع المسافة بين المعسكرين، واخترق الحصار.. وتسلل الى معسكر قريش، وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر، فخيّم عليه الظلام،واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين...

    وخشي أبوسفيان قائد قؤيش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذر جيشه، وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع:

    " يا معشر قريش، لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه".

    يقول حذيفة"

    " فسارعت الى يد الرجل الذي بجواري، وقلت لهمن أنت..؟ قال: فلان بن فلان؟"...

    وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلام..!

    واستأنف أبو سفيان نداءه الى الجيش قائلا:" يا معشر قريش.. انكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع _ أي الخيل_ والخف_ أي الابل_، وأخلفتنابنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فاني مرتحل"..

    ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون..

    يقول حذيفة:

    " لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليّ ألا تحدث شيئا حتى تأتيني، لقتلته بسهم"..

    وعاد حذيفة الى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره الخبر، وزف البشرى اليه...
    **
    ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل الظنون..

    ورجل الصومعة العابد، المتأمل لا يكاد يحمل شيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلال حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر الأبصار..

    وحسبنا أن نعلم، أنه كان ثالث ثلاثة، أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها..!
    وفي همدان والري والدينور تم الفتح على يديه..

    وفي معركة نهاوند العظنى، حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين الفا.. اختار عمر لقيادة الجيوش المسلمة النعمان بن مقرّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة..

    وأرسل عمر الى المقاتلين كتابه يقول:

    " اذا اجتمع المسلمون فليكن على كل أمير جيشه.. وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرّن..

    فاذا استشهد النعمان، فليأخذ الراية حذيفة، فاذا استشهد فجرير بن عدالله..

    وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار قوّاد المعركة حتى سمّى منهم سبع...

    والتقى الجيشان..

    الفرس في مائة ألف وخمسين ألفا..

    والمسلمون في ثلاثين ألفا لاغير...

    وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا..

    وسقط قائد المسلمين قتيلا، سقط النعمان بن مقرّن، وقبل أن تهوي الراية المسلمة الى الأرض كان القائد الجديد قد تسلمها بيمينه، وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم... ولم يكن هذا القائد سوى حذيفة بن اليمان...

    حمل الراية من فوره، وأوصى بألا ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة.. ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريما له..

    أنجزت المهمة في لحظات والقتال يدور، بديهيته المشرقة.. ثم انثنى كالاعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحا:

    " الله أبكر صدق وعده!!

    الله أكبر نصر جنده!!"

    ثم لوى زمام فرسه صوب المقاتلين في جيوشه ونادى: يا أتباع محمد.. هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم فلا تطيلوا عليها الانتظار..

    هيا يا رجال بدر..

    تقدموا يا ابطال الخندق وأحد وتبوك..

    لقد احتفظ حذيفة بكا حماسة المعركة وأشواقها، ان لم يكن قد زاد منها وفيها..

    وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس.. هزيمة لا نكاد نجد لها نظيرا..!!
    /////////////////هذا العبقري في حمته، حين تضمّه صومعته..

    والعبقري في فدائيته، حين يقف فوق أرض القتال..

    هو كذلك العبقري في كل مهمةتوكل اليه، ومشورةتطلب منه.. فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن الى الكوفة واستوطنوها..

    وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا.

    مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة، فينتقل بالمسلمين اليها..

    يومئذ من الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان..؟

    انه حذيفة بن اليمان.. ذهب ومعه سلمان بن زياد، يرتادان لمسلمين المكان الملائم..

    فلما بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة. شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل ان شاء الله..

    وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة...

    وما كاد المسلمون ينتقلون اليها، حتى شفي سقيمهم. وقوي ضعيفهم. ونبضت بالعافية عروقهم..!!

    لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائما:

    " ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"...
    **
    وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين..دعي للقاء الله.. واذ هو يتهيأ للرحلة الأخيرة دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم:

    أجئتم معكم بأكفان..؟؟

    قالوا: نعم..

    قال: أرونيها..

    فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..

    فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:

    " ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص..

    فاني لن أترك في القبر الا قليلا، حتى أبدّل خيرا منهما... أو شرّ منهما"..!!

    وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:

    " مرحبا بالموت..

    حبيب جاء على شوق..

    لا أفلح من ندم"..

    وصعدت الى الله روح من أعظم أرواح البشر، ومن أكثرها تقى، وتآلقا، واخباتا
    [IMG]]

  10. #10
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    زيد بن حارثة - لم يحبّ حبّه أحد


    وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الاسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة، قائلا:

    " عليكم زيد بن حارئة.. فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طاب.. فان أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة".

    فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟

    من هذا الذي حمل دون سواه لقب الحبّ.. حبّ رسول الله..؟
    أما مظهره وشكله، فكان كما وصفه المؤرخون والرواة:

    " قصير، آدم، أي أسمر، شديد الأدمة، في أنفه فطس"..

    أمّا نبؤه، فعظيم جدّ عظيم..!!






    **



    أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن.

    وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة، وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو الى داره وعمله، ودفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده..

    لكنّ الشقّة بعدت، والقافلة أغذّت سيرها، وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه، ويعود..

    وكذا ودّعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره، وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..!!




    **



    ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث..

    وذات يوم فوجئ الحيّ، حي بني معن، باحدى القبائل المناوئة له تغير عليه، وتنزل الهزيمة ببني معن، ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليفع، زيد بن حارثة..

    وعادت الأم الى زوجها وحيدة.

    ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرّ صعقا، وحمل عصاه على كاهله، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد، مسايّا نفسه، وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه:

    بكيت على زيد ولم ادر ما فعل

    أحيّ فثرجى؟ أم أتى دونه الأجل

    فوالله ما أدري، واني لسائل

    أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل



    تذكرينه الشمس عنج طلوعها

    وتعرض ذكراه اذا غربع\ها أفل

    وان هبّت الأرواح هيّجن ذكره

    فيا طول حزني عليه، ويا وجل




    **



    كان الرّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة..

    كان ذلك في أثينا، حتى في أزهى عصور حريّتها ورقيّها..

    وكذلك كان في روما..

    وفي العالم القديم كله.. وبالتالي في جزيرة العرب أيضا..

    وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها، وعادت حاملة أسراها، ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ، وباعوا الأسرى..



    ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة.

    وكانت خديجة رضي الله عنها، قد صارت زوجة لمحمد بن عبدالله، الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين..



    ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد لزوجها رسول اله فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره،وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية..

    وفي أحد مواسم الحج. التقى تفر من حيّ حارثة بزيد في مكة، ونقلوا اليه لوعة والديه، وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه، وقال للحجّاج من قومه"

    " أخبوا أبي أني هنا مع أكرم والد"..



    ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير اليه، ومعه أخوه..

    وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين.. ولما لقياه قالا له:

    "يا بن عبدالمطلب..

    يا لن سيّد قومه، أنتم أهل حرم، تفكون العاني، وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا، فامنن علينا وأحسن في فدائه"..

    كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به، وكان في نفس الوقت يقدّر حق ابيه فيه..



    هنالك قال حارثة:

    "ادعوا زيدا، وخيّروه، فان اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..!!

    وتهلل وجه حارثة الذي لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال:

    " لقد أنصفتنا، وزدتنا عن النصف"..

    ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم الى زيد، ولما جاء سأله:

    " هل تعرف هؤلاء"..؟

    قال زيد: نعم.. هذا أبي.. وهذا عمّي.

    وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة.. وهنا قال زيد:

    " ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت الأب والعم"..!!

    ونديت عينا رسول الله بدموعشاكرة وحانية، ثم أمسك بيد زيد، وخرج به الى فناء الكعبة، حيث قريش مجتمعة هناك، ونادى الرسول:

    " اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه"..!!

    وكاد قلب حارثة يطير من الفرح.. فابنه لم يعد حرّا فحسب، بل وابنا للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها..

    وعاد الأب والعم الى قومهما، مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيّدا في مكة، آمنا معافى، بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل، أم غاله الجبل..!!




    **



    تبنّى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها الا باسمه هذا زيد بن محمد..

    وفي يوم باهر الشروق، نادى الوحي محمدا:

    ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علّم الانسان ما لك يعلم)...

    ثم تتابعت نجاءاته وكلماته:

    ( يا أيها الكدثر، قم فأنذر، وربّك فكبّر)...

    (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك، وان لم تفعل فما بلّغت رسالته، والله يعصمك من الناس، ان الله لايهدي القوم الكافرين)...

    وما ان حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين.. بل قيل انه كان أول المسلمين...!!




    **



    أحبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما، وكان بهذا الحب خليقا وجديرا.. فوفاؤه الذي لا نظير له، وعظمة روحه، وعفّة ضميره ولسانه ويده...

    كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد الحبّ كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام..

    تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها:

    " ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط الا أمّره عليهم، ولو بقي حيّا بعد رسول اللهلاستخلفه...

    الى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    فمن كان زيد هذا..؟؟

    انه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي، ثم بيع، ثم حرره الرسول وأعتقه..

    وانه ذلك الرجال القصير، الأسمر، الأفطس الأنف، بيد أنه أيضا ذلك الانسان الذي" قلبه جميع وروحه حر"..

    ومن ثم وجد له في الاسلام، وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان، فلا الاسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب، ولا بوجاهة المظهر.

    ففي رحاب هذا الدين العظيم، يتألق بلال، ويتألق صهيب، ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد...

    يتألقون جميعا كأبرا، وقادة..

    لقد صحح الاسلام قيم الاسلام، قيم الحياة حين قال في كتابه الكريم:

    ( انّ أكرمكم عند الله أتقاكم)...

    وفتح الأبواب والرحاب للمواهب الخيّرة، وللكفايات النظيفة، الأمينة، المعطية..

    وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا من ابنة عمته زينب، ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترغب بنفسها عن نفسه..

    ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر، وتستنفد عوامل بقائها، فانفصل زيد عن زينب.

    وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولا عن امضائه، والذي انتهى بالانفصال، فضمّ ابنة عمته اليه واختارها زوجة له، ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة..



    وذهب الشنئون يرجفون المدينة: كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟؟

    فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبنياء.. بين التبني والبنّوة، ومقررا الغاء عادة التبني، ومعلنا:

    ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله، وخاتم النبين).

    وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:" زيد بن حارثة".




    **



    والآن..

    هل ترون هذه اقوات المسلمة الخارجة الى معارك، الطرف، أو العيص، وحسمي، وغيرها..

    ان أميرها جميعا، هو زيد بن حارثة..

    فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:" لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط، الا جعله أميرا هلى هذا الجيش"..



    حتى جاءت غزوة مؤتة..

    كان الروم بأمبراطوريتهم الهرمة، قد بدأوا يوجسون من الاسلام خيفة..بل صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم، ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها، والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد، المنطلق في عنفوان واكتساح..

    وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية، وبلاد الاسلام...




    **



    وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الاسلام، فقرر أن يبادرهم، ويقنعهم بتصميم الاسلام الى أرض البلقاء بالشام، حتى اذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود..

    ونزل جيش الروم في مكان يسمّى مشارف..

    في حين نزل جيش الاسلام يجوار بلدة تسمّى مؤتة، حيث سمّيت الغزوة باسمها...




    **



    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل، والفرسان في النهار..

    ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد عظيم يصافحون اثره رضوان الله تعالى، ويطالعون وجهه الكريم..

    وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في امارة الجيش هم:

    زيد بن حارثة،

    جعفر بن أبي طالب،

    عبدالله بن رواحة.

    رضي الله عنهم وأرضاهم، ورضي الله عن الصحابوة أجمعين...

    وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودّع الجيش يلقي أمره السالف:

    " عليكم زيد بن حارثة..

    فان أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب،...

    فان أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة"...

    وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    وعلى الرغم من شجاعته، وجسارته، وحسبه ونسبه، فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد، وجعل زيدا الأمير الأول للجيش...

    وبمثل هذا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الاسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الانسانية الفاسدة، والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل، لينشئ مكانها علاقات جديدة، رشيدة، قوامها انسانية الانسان...!!




    **



    ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع امراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر، فابن رواحة.. فقد لقوا ربّهم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا..!!



    ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب..

    ولكن متى كانت معارك الايمان معارك كثرة..؟؟

    هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتحما رماح العدو زنباله وسيوفه، لا يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

    لم يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء، ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة، ورفرفها الأخضر، تخفق أمام عينيه كالأعلام، تنبئه أن اليوم يوم زفافه..

    وكان هو يضرب، ويقاتل، لا يطوّح رؤوس مقاتليه، انما يفتح الأبواب، ويفضّ الأغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع، الي سيدلف منه الى دار السلام، وجنات الخلد، وجوار الله..



    وعانق زيد مصيره...

    وكانت روحه وهي في طريقها الى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها، لا يلفه الحرير الناعم، بل يضخّمه دم طهور سال في سبيل الله..

    ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة، وهي تبصر ثاني الأمراء جعفرا يندفع كالسهم صوب الراية ليتسلمها، وليحملها قبل أن تغيب في التراب....
    [IMG]]

  11. #11
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    انتظرو التكملة
    [IMG]]

  12. #12
    انجليزي جديد الصورة الرمزية أمير القبيلة
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    35
    معدل تقييم المستوى
    67

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    جزاك الله كل خير
    نعم هؤلاء هم رجال نحبهم ونسال الله ان يجمعنا بهم في جنات النعيم
    أمير القبيلة رجل شرفه الله بخدمة الناس

  13. #13
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    عتبة بن غزوان- غدا ترون الأمراء من بعدي


    من بين المسلمين السابقين، والمهاجرين الأولين الى الحبشة، فالمدينة..

    ومن بين الرماة الأفذاذ الذين أبلوا في سبيل الله بلاء حسنا، هذا الرجل الفارع الطول، المشرق الوجه، المخبت القلب عتبة بن غزوان...

    **
    كان سابع سبعة سبقوا الى الاسلام، وبيطوا أيمانهم الى يمين الرسول صلى الله عليه وسلم، مبايعين ومتحدّين قريش بكل ما معها من بأس وقدرة على الانتقام..

    وفي الأيام الأولى للدعوة.ز أيام العسرة والهول، صمد عتبة بن غزوان، مع اخوانه ذلك الصمود الجليل الذي صار فيما بعد زادا للضمير الانساني يتغذى به وينمو على مر الأزمان..

    ولما أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة الى الحبشة، خرج عتبة مع المهاجرين..

    بيد أن شوقه الى النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعه يستقر هناك، فسرعان ما طوى البرّ والبحر عائدا الى مكة، حيث لبث فيها بجوار الرسول حتى جاء ميقات الهجرة الى المدينة، فهاجر عتبة مع المسلمين..

    ومنذ بدأت قريش تحرشاتها فحروبها، وعتبة حامل رماحه ونباله، يرمي بها في أستاذية خارقة، ويسهم مع اخوانه المؤمنين في هدم العالم القديم بكل أوثانه وبهتانه..

    ولم يضع سلاحه يوم رحل عنهم الرسول الكريم الى الرفيق الأعلى، بل ظل يضرب في الأرض، وكان له مع جيوش الفرس جهاد عظيم..

    **

    أرسله أمير المؤمنين عمر الى الأبلّة ليفتحها، وليطهر أرضها من الفرس الذين كانوا يتخذونها نقطة وثوب خطرة على قوات الاسلام الزاحفة عبر بلاد الامبراطورية الفارسية، تستخلص منها بلاد الله وعباده..

    وقال له عمر وهو يودّعه وجيشه:

    " انطلق أنت ومن معك، حتى تأتوا أقصى بلاد العرب، وأدنى بلاد العجم..

    وسر على بركة الله ويمنه..

    وادع الى الله من أجابك.

    ومن أبى، فالجزية..

    والا فالسيف في غير هوادة..

    كابد العدو، واتق الله ربك"..

    **
    ومضى عتبة على رأس جيشه الذي لم يكن كبيرا، حتى قدم الأبلّة..

    وكان الفرس يحشدون بها جيشا من أقوى جيوشهم..

    ونظم عتبة قواته، ووقف في مقدمتها، حاملا رمحه بيده التي لم يعرف الناس لها زلة منذ عرفت الرمي..!!

    وصاح في جنده:

    " الله أكبر، صدق وعده"..

    وكأنه كان يقرأ غيبا قريبا، فما هي الا جولات ميمونة استسلمت بعدها الأبلّة وطهرت أرضها من جنود الفرس، وتحرر أهلها من طغيان طالما أصلاهم سعيرا.. وصدق الله العظيم وعده..!!

    **
    احتطّ عتبة مكان الأبلّة مدينة البصرة، وعمّرها وبنى مسجدها العظيم..

    وأراد أن يغادر البلاد عائدا الى المدينة، هاربا من الامارة، لكن أمير المؤمنين أمره بالبقاء..

    ولبث عتبة مكانه يصلي بالناس، ويفقههم في دينهم، ويحكم بينهم بالعدل، ويضرب لهم أروع المثل في الزهد والورع والبساطة...

    ووقف يحارب الترف والسرف بكل قواه حتى ضجره الذين كانوا تستهويهم المناعم والشهوات..

    هنالك وقف عتبة فيهم خطيبا فقال:

    " والله، لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ومالنا طعام الا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا..

    ولقد ر**ت يوما بردة، فشققتها نصفين، أعطيت نصفها سعد بن مالك، ولبست نصفها الآخر"..

    **
    كان عتبة يخاف الدنيا على دينه أشد الخوف، وكان يخافها على المسلمين، فراح يحملهم على القناعة والشظف.

    وحاول الكثيرون أن يحوّلوه عن نهجه، ويثيروا في نفسه الشعور بالامارة، وبما للامارة من حق، لا سيما في تلك البلاد التي لم تتعود من قبل أمراء من هذا اطراز المتقشف الزاهد، والتي تعود أهلها احترام المظاهر المتعالية المزهوّة.. فكان عتبة يجيبهم قائلا:

    " اني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيما، وعند الله صغيرا"..!

    ولما رأى الضيق على وجوه الناس بسبب صرامته في حملهم على الجادّة والقناعة قال لهم:

    " غدا ترون الأمراء من بعدي"..

    وجاء موسم الحج، فاستخلف على البصرة أحد اخوانه وخرج حاجا. ولما قضى حجه، سافر الى المدينة، وهناك سأل أمير المؤمنين أن يعفيه الامارة..

    لكن عمر لم يكن يفرّط في هذا الطراز الجليل من الزاهدين الهاربين مما يسيل له لعاب البشر جميعا.

    وكان يقول لهم:

    " تضعون أماناتكم فوق عنقي..

    ثم تتركوني وحدي..؟

    لا والله لا أعفكيم أبدا"..!!

    وهكذا قال لـ عتبة لغزوان..

    ولما لم يكن في وسع عتبة الا الطاعة، فقد استقبل راحلته ليركبها راجعا الى البصرة.

    لكنه قبل أن يعلو ظهرها، استقبل القبلة، ورفع كفّيه الضارعتين الى السماء ودعا ربه عز وجل ألا يردّه الى البصرة، ولا الى الامارة أبدا..

    واستجيب دعاؤه..

    فبينما هو في طريقه الى ولايته أدركه الموت..

    وفاضت روحه الى بارئها، مغتبطة بما بذلت وأعطت..

    وبما زهدت وعفت..

    وبما أتم الله عليها من نعمة..

    وبما هيأ لها من ثواب...
    [IMG]]

  14. #14
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    عبد الرحمن بن عوف - ما يبكيك يا أبا محمد



    ذات يوم، والمدينة ساكنة هادئة، أخذ يقترب من مشارفها نقع كثيف، راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي الأفق.

    ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء الناعمة، فاندفعت تقترب من أبواب المدينة، وتهبّ هبوبا قويا على مسالكها.
    وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها، لكنهم سرعان ما سمعوا وراء ستار الغبار ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.

    ولم يمض وقت غير وجيز، حتى كانت سبعمائة راحلة موقرة الأحمال تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا، ونادى الناس بعضهم بعضا ليروا مشهدها الحافل، وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير ور**..

    **
    وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد ترتمت الى سمعها أصداء القافلة الزاحفة..

    سألت: ما هذا الذي يحدث في المدينة..؟

    وأجيبت: انها قافلة لعبدالرحمن بن عوف جاءت من الشام تحمل تجارة له..

    قالت أم المؤمنين:

    قافلة تحدث كل هذه الرّجّة..؟!

    أجل يا ام المؤمنين.. انها سبعمائة راحلة..!!

    وهزت أم المؤمنين رأسها، وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا، كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته، أو حديث سمعته..

    "أما اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

    رأيت عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا"..

    **
    عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا..؟

    ولماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول الله..؟

    ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة اليه، فتذكر أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة، وبأكثر من صيغة.

    وقبل أن تفضّ مغاليق الأحمال من تجارته، حث خطاه الى بيت عائشة وقال لها: لقد ذكّرتيني بحديث لم أنسه..

    ثم قال:

    " أما اني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها، وأقتابها، وأحلاسها، في سبيل الله عز وجل"..

    ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها في نهرجان برّ عظيم..!!

    هذه الواقعة وحدها، تمثل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبدالرحمن بن عوف".

    فهو التاجر الناجح، أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..

    وهو الثري، أكثر ما يكون الثراء وفرة وافراطا..

    وهو المؤمن الأريب، الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين، ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة الايمان ومثوبة الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في سخاء وغبطة ضمير..!!

    **
    متى وكيف دخل هذا العظيم الاسلام..؟

    لقد أسلم في وقت مبكر جدا..

    بل أسلم في الساعات الأولى للدعوة، وقبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم ويتخذها مقرا لالتقائه بأصحابه المؤمنين..

    فهو أحد الثمانية الذن سبقوا الى الاسلام..

    عرض عليه أبوبكر الاسلام هو وعثمان بن عفان وال***ر بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، فما غمّ عليهم الأمر ولا أبطأ بهم الشك، بل سارعوا مع الصدّيق الى رسول الله يبايعونه ويحملون لواءه.

    ومنذ أسلم الى أن لقي ربه في الخامسة والسبعين من عمره، وهو نموذج باهر للمؤمن العظيم، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضعه مع العشرة الذين بشّرهم بالجنة.. وجعل عمر رضي الله عنه يضعه مع أصحاب الشورى الستة الذين جعل الخلافة فيهم من بعده قائلا:" لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض".

    وفور اسلام عبدالرحمن بن عوف حمل حظه المناسب، ومن اضطهاد قريش وتحدّياتها..

    وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة الى الحبشة هاجر ابن عوف ثم عاد الى مكة، ثم هاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر الى المدينة.. وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها..

    **
    وكان محظوظا في التجارة الى حدّ أثار عجبه ودهشه فقال:

    " لقد رأيتني، لو رفعت حجرا، لوجدت تحت فضة وذهبا"..!!

    ولم تكن التجارة عند عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه شرها ولا احتكارا..

    بل لم تكن حرصا على جمع المال شغفا بالثراء..

    كلا..

    انما كانت عملا، وواجبا يزيدهما النجاح قربا من النفس، ومزيدا من السعي..

    وكان ابن عوف يحمل طبيعة جيّاشة، تجد راحتها في العمل الشريف حيث يكون..

    فهو اذا لم يكن في المسجد يصلي، ولا في الغزو يجاهد فهو في تجارته التي نمت نموا هائلا، حتى أخذت قوافله تفد على المدينة من مصر، ومن الشام، محملة بكل ما تحتاج اليه جزيرة العرب من **اء وطعام..

    ويدلّنا على طبيعته الجيّاشة هذه، مسلكه غداة هجر المسلمين الى المدينة..

    لقد جرى نهج الرسول يومئذ على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه، أحدهما مهاجر من مكة، والآخر أنصاري من المدينة.

    وكانت هذه المؤاخات تم على نسق يبهر الألباب، فالأنصاري من أهل المدينة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك.. حتى فراشه، فاذا كان تزوجا باثنين طلق احداهما، ليتزوجها أخوه..!!

    ويومئذ آخى الرسول الكريم بين عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع..

    ولنصغ للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يروي لنا ما حدث:

    " .. وقال سعد لعبدالرحمن: أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه!!

    وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها، وتتزوجها..!

    فقال له عبدالرحمن بن عوف:

    بارك الله لك في أهلك ومال..

    دلوني على السوق..

    وخرج الى السوق، فاشترى.. وباع.. وربح"..!!

    وهكذا سارت حياته في المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، أداء كامل لحق الدين، وعمل الدنيا.. وتجارة رابحة ناجحة، لو رفع صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد تحته فضة وذهبا..!!

    ومما جعل تجارته ناجحة مباركة، تحرّيه الحلال، ونأيه الشديد عن الحرام، بل عن الشبهات..

    كذلك مما زادها نجاخا وبركة أنها لم تكن لعبدالرحمن وحده.. بل كان لله فيها نصيب أوفى، يصل به أهله، واخوانه، ويجهّز به جيوش الاسلام..

    واذا كانت الجارة والثروات، انما تحصى بأعداد رصيدها وأرباحها فان ثروة عبدالرحمن بن عوف انما تعرف مقاديرها وأعدادها بما كان ينفق منها في سبيل الله رب العالمين..!!

    لقد سمع رسول الله يقول له يوما:

    " يا بن عوف انك من الأغنياء..

    وانك ستدخل الجنة حبوا..

    فأقرض الله يطلق لك قدميك"..

    ومن سمع هذا النصح من رسول الله، وهو يقرض ربه قرضا حسنا، فيضاعفه له أضعافا كثيرة.

    باع في يوم أرضا بأربعين ألف دينار، ثم فرّقها في أهله من بني زهرة، وعلى أمهات المؤمنين، وفقراء المسلمين.

    وقدّم يوما لجيوش الاسلام خمسمائة فرس، ويوما آخر الفا وخمسمائة راحلة.

    وعند موته، أوصى بخمسن ألف دينار في سبيل الله، وأ،صى لكل من بقي ممن شهدوا بدرا بأربعمائة دينار، حتى ان عثمان بن عفان رضي الله عنه، أخذ نصيبه من الوصية برغم ثرائه وقال:" ان مال عبدالرحمن حلال صفو، وان الطعمة منه عافية وبركة".

    **
    كان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده..

    وآية ذلك أنه لم يكن يشقى بجمعه ولا باكتنازه..

    بل هو يجمعه هونا، ومن حلال.. ثم لا ينعم به وحده.. بل ينعم به معه أهله ورحمه واخوانه ومجتمعه كله.

    ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال:

    " أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله.

    " ثلث يقرضهم..

    وثلث يقضي عنهم ديونهم..

    وثلث يصلهم ويعطيهم.."

    ولم كن ثراؤه هذا ليبعث الارتياح لديه والغبطة في نفسه، لو لم يمكّنه من مناصرة دينه، ومعاونة اخوانه.

    أما بعد هذا، فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء..

    جيء له يوما بطعام الافطار، وكان صائما..

    فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال:

    " استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفّن في بردة ان غطت رأسه، بدت رجلاه، وان غطت رجلاه بدا رأسه.

    واستشهد حمزة وهو خير مني، فلم يوجد له ما يمفن فيه الا بردة.

    ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا واني لأخشى أن نكون قد عجّلت لنا حسناتنا"..!!

    واجتمع يوما نع بعض أصحابه على طعام عنده.

    وما كاد الطعام يوضع أمامهم حتى بكى وسألوه:

    ما يبكيك يا أبا محمد..؟؟

    قال:

    " لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير..

    ما أرانا أخرنا لم هو خير لنا"..!!

    كذلك لم يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكبر في نفسه..
    حتى لقد قيل عنه: انه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه، ما استطاع أ، يميزه من بينهم..!!
    لكن اذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبلائه، فيعرف مثلا أنه أصيب يوم أحد بعشرين جراحة، وان احدى هذه الاصابات تركت عرجا دائما في احدى ساقيه.. كما سقطت يوم أحد بعض ثناياه. فتركت همّا واضحا في نطقه وحديثه..

    عندئذ لا غير، يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع القامة، المضيء الوجه، الرقيق البشرة، الأعرج، الأهتم من جراء اصابته يوم أحد هو عبدالرحمن بن عوف..!!

    رضي الله عنه وأرضاه..

    **لقد عوّدتنا طبائع البشر أن الثراء ينادي السلطة...

    أي أن الأثرياء يحبون دائما أن يكون لهم نفوذ يحمي ثراءهم ويضاعفه، ويشبع شهوة الصلف والاستعلاء والأنانية التي يثيرها الثراء عادة..

    فاذا رأينا عبدالرحمن بن عوف في ثرائه العريض هذا، رأينا انسانا عجبا يقهر طبائع البشر في هذا المجال ويتخطاها الى سموّ فريد..!

    حدث ذلك عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجود بروحه الطاهرة، ويختار ستة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليختاروا من بينهم الخليفة الجديد..

    كانت الأصابع تومئ نحو ابن عوف وتشير..

    ولقد فاتحه بعض الصحابة في أنه أحق الستة بالخلافة، فقال:

    " والله، لأن تؤخذ مدية، فتوضع في حلقي، ثم ينفذ بها الى الجانب الآخر أحب اليّ من ذلك"..!!
    وهكذا لم يكد الستة المختارون يعقدون اجتماعهم ليختاروا أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حتى أنبأ اخوانه الخمسة الآخرين أنه متنازل عن الحق الذي أضفاه عمر عليه حين جعله أحد الستة الذين يختار الخليفة منهم.. وأنّ عليهم أن يجروا عملية الاختيار بينهم وحدهم أي بين الخمسة الآخرين..

    وسرعان ما أحله هذا الزهد في المنصب مكان الحكم بين الخمسة الأجلاء، فرضوا أن يختار هو الخليفة من بينهم، وقال الامام علي:

    " لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفك بأنك أمين في أهل السماء، وأمين في أهل الأرض"..

    واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخلافة، فأمضى الباقون اختياره.

    **هذه حقيقة رجل ثري في الاسلام..

    فهل رأيتم ما صنع الاسلام به حتى رفعه فوق الثرى بكل مغرياته ومضلاته، وكيف صاغه في أحسن تقويم..؟؟

    وها هو ذا في العام الثاني والثلاثين للهجرة، يجود بأنفاسه..

    وتريد أم المؤمنين عائشة أن تخصّه بشرف لم تختصّ به سواه، فتعرض عليه وهو على فراش الموت أن يدفن في حجرتها الى جوار الرسول وأبي بكر وعمر..

    ولكنه مسلم أحسن الاسلام تأديبه، فيستحي أن يرفع نفسه الى هذا الجوار...!!

    ثم انه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون، اذ تواثقا ذات يوم: أيهما مات بعد الآخر يدفن الى جوار صاحبه..

    **وبينما كانت روحه تتهيأ لرحلتها الجديدة كانت عيناه تفيضان من الدمعو ولسانه يتمتم ويقول:

    " اني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال"..

    ولكن سكينة الله سرعان ما تغشته، ف**ت وجهه غلالة رقيقة من الغبطة المشرقة المتهللة المطمئنة..

    وأرهفت أذناه للسمع.. كما لو كان هناك صوت عذب يقترب منهما..

    لعله آنئذ، كان يسمع صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم له منذ عهد بعيد:

    " عبدالرحمن بن عوف في الجنة"..

    ولعله كان يسمع أيضا وعد الله في كتابه..

    ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)..


    Shehab
    شهيد الاسلام
    لوتس يفوق الوصف
    التعديل الأخير تم بواسطة ميس ; 31-03-2006 الساعة 02:45 PM
    [IMG]]

  15. #15
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    سعد بن عبادة - حامل راية الأنصار



    لا يذكر سعد بن معاذ الا ويذكر معه سعد بن عبادة..

    فالاثنان زعيما أهل المدينة..

    سعد بن معاذ زعيم الأوس..

    وسعد بن عبادة زعيم الخزرج..
    وكلاهما أسلم مبكرا، وشهد بيعة العقبة، وعاش الى جوار رسول الله صلى اله عليه وسلم جنديا مطيعا، ومؤمنا صدوقا..

    ولعلّ سعد بن عبادة ينفرد بين الأنصار جميعا بأنه حمل نصيبه من تعذيب قريش الذي كانت تنزله بالمسلمين في مكة..!!

    لقد كان طبيعيا أن تنال قريش بعذابها أولئك الذين يعيشون بين ظهرانيها، ويقطنون مكة..

    أما أن يتعرض لهذا العذاب رجل من المدينة.. وهو ليس بمجرد رجل.. بل زعيم كبير من زعمائها وساداتها، فتلك ميّزة قدّر لابن عبادة أن ينفرد بها..

    وذلك بعد أن تمت بيعة العقبة سرا، وأصبح الأنصار يتهيئون للسفر، علمت قريش بما كان من مبايعة الأنصار واتفاقهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم الى الهجرة الى المدينة حيث يقفون معه ومن ورائه ضد قوى الشرك والظلام..

    وجنّ جنون قريش فراحت تطارد الركب المسافر حتى أدركت من رجاله سعد بن عبادة فأخذه المشركون، وربطوا يديه الى عنقه بشراك رحله وعادوا به الى مكة، حيث احتشدوا حوله يضربونه وينزلون به ما شاءوا من العذاب..!!

    أسعد بن عبادة يصنع به هذا..!؟

    زعيم المدينة، الذي طالما أجار مستجيرهم، وحمى تجارتهم، وأكرم وفادتهم حين يذهب منهم الى المدينة ذاهب..؟؟

    لقد كان الذين اعتقلوه، والذين ضربوه لا يعرفونه ولا يعرفون مكانته في قومه..

    ولكن، أتراهم كانوا تاركيه لو عرفوه..؟

    ألم ينالوا بتعذيبهم سادة مكة الذين أسلموا..؟؟

    ان قريشا في تلك الأيام كانت مجنونة، ترى كل مقدرات جاهليتها تتهيأ للسقوط تحت معاول الحق، فلم تعرف سوى اشفاء أحقادها نهجا وسبيلا..

    أحاط المشركون بسعد بن عبادة ضاربين ومعتدين..

    ولندع سعدا يحكي لنا بقيّة النبأ:

    ".. فوالله اني لفي أيديهم اذ طلع عليّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء، أبيض، شعشاع من الجرال..

    فقلت في نفسي: ان يك عند أحد من القوم خير، فعند هذا.

    فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة..

    فقلت في نفسي: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير..!!

    فوالله اني لفي أيديهم يسحبونني اذ أوى اليّ رجل ممن كان معهم فقال: ويحك، اما بينك وبين أحد من قريش جوار..؟

    قلت: بلى.. كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي، وكنت أجير للحارث بن حرب بن أميّة..

    قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما من جوار، ففعات..

    وخرج الرجل اليهما، فأنبأهما أن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح، وهو يهتف باسميهما، ويذكر أن بينه وبينهما جوارا..

    فسألاه عن اسمي.. فقال سعد بن عبادة..

    فقالا: صدقا والله، وجاءا فخلصاني من أيديهم".



    غادر سعد بعد هذا العدوان الذي صادفه في أوانه ليعلم كم تتسلح قريش بالجريمة ضدّ قوم عزل، يدعون الى الخير، والحق والسلام..

    ولقد شحذ هذا العدوان، وقرر أن يتفانى في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصحاب والاسلام..




    **



    ويهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة.. ويهاجر قبله أصحابه..

    وهناك سخّر سعد أمواله لخدمة المهاجرين..

    كان سعد جوادا بالفطرة وبالوراثة..

    فهو ابن عبادة بن دليم بن حارثة الذي كانت شهرة جوده في الجاهلية أوسع من كل شهرة..

    ولقد صار جود سعد في الاسلام آية من آيات ايمانه القوي الوثيق..

    قال الرواة عن جوده هذا:

    " كانت جفنة سعد تدور مع النبي صلى اله عليه وسلم في بيوته جميعا"..

    وقالوا:

    " كان الرجل من الأنصار ينطلق الى داره، بالواحد من المهاجرين، أو بالاثنين، أو بالثلاثة.

    وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين"..!!

    من أجل هذا، كان سعد يسأل ربه دائما المزيد من خره ور**ه..

    وكان يقول:

    " اللهم انه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه"..!!

    ون\من أجل هذا كان خليقا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له:

    " اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"..




    **



    ولم يضع سعد ثروته وحدها في خدمة الاسلام الحنيف، بل وضع قوته ومهارته..

    فقد كان يجيد الرمي اجادة فائقة.. وفي غزواته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فدائيته حازمة وحاسمة.

    يقول ابن عباس رضي الله عنهما:

    " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها رايتان..

    مع علي ابن أبي طالب راية المهاجرين..

    ومع سعد بن عبادة، راية الأنصار"..




    **



    ويبدو أن الشدّة كانت طابع هذه الشخصية القوية..

    فهو شديد في الحق..

    وشديد في تشبثه بما يرى لنفسه من حق..

    واذا اقتنع بأمر نهض لاعلانه في صراحة لا تعرف المداراة، وتصميم لا يعرف المس***ة..

    وهذه الشدة، أ، هذا التطرّف، هو الذي دفع زعيم الأنصار الكبير الى مواقف كانت عليه أكثر مما كانت له..




    **



    فيوم فتح مكة، جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على فيلق من جيوش المسلمين..

    ولم يكد يشارف أبواب البلد الحرام حتى صاح:

    " اليوم يوم الملحمة..

    اليوم تستحل الحرمة"..

    وسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسارع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:

    " يا رسول الله..

    اسمع ما قال سعد بن عبادة..

    ما نأمن أن يكون له في قريش صولة"..

    فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّا أن يدركه، ويأخذ الراية منه، ويتأمّر مكانه..

    ان سعدا حين رأى مكة مذعنة مستسلمة لجيش الاسلام الفاتح.. تذكّر كل صور العذاب الذي صبّته على المؤمنين، وعليه هو ذات يوم..
    وتذكر الحروب التي سنتها على قوم ودعاة.. كل ذنبهم أنهم يقولون: لا اله الا الله، فدفعته شدّته الى الشماتة بقريش وتوعدها يوم الفتح العظيم..




    **

    وهذه الشدة نفسها،أو قل هذا التطرّف الذي كان يشكل جزءا من طبيعة سعد هو الذي جعله يقف يوم السقيفة موقفه المعروف..

    فعلى أثر وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، التف حوله ح\جماعة من الأنصار في سقيفة بني ساعدة منادين بأن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار..

    كانت خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا لذويه في الدنيا والآخرة..

    ومن ثم أراد هذا الفريق من الأنصار أن ينالوه ويظفروا به..

    ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر على الصلاة أثناء مرضه، وفهم الثحابة من هذا الاستخلاف الذي كان مؤيدا بمظاهر أخرى أضفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أبي بكر.. ثاني اثنين اذ هما في الغار..

    نقول: فهموا أن أبا بكر أحق بالخلافة من سواه..

    وهكذا تزعّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الرأي واستمسك به في حين تزعم سعد بن عبادة رضي الله عنه، الرأي الآخر واستمسك به، مما جعل كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم يأخذون عليه هذا الموقف الذي كان موضع رفضهم واستنكارهم..




    **



    ولكن سعد بن عبادة بموقفه هذا، كان يستجيب في صدق لطبيعته وسجاياه..

    فهو كما ذكرنا شديد التثبت باقتناعه، وممعن في الاصرار على صراحته ووضوحه..

    ويدلنا على هذه السجيّة فيه، موقفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد غزوة حنين..

    فحين انتهى المسلمون من تلك الغزوة ظافرين، راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع غنائمها على المسلمين.. واهتم يومئذ اهتماما خاصا بالمؤلفة قلوبهم، وهم أولئك الأشراف الذين دخلوا الاسلام من قريب، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم بهذا التألف، كما أعطى ذوي الحاجة من المقاتلين.

    وأما أولو الاسلام المكين، فقد وكلهم الى اسلامهم، ولم يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئا..

    كان عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجرّد عطائه، شرفا يحرص عليه جميع الناس..

    وكانت غنائم الحرب قد أصبحت تشكّل دخلا هاما تقوم عليه معايش المسلمين..

    وهكذا تساءل الأنصار في مرارة: لماذا لم يعطهم رسول الله حظهم من الفيء والغنيمة..؟؟

    وقال شاعرهم حسان بن ثابت:

    وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن

    للمؤمنين اذا ما عدّد البشر

    علام تدعى سليم، وهي نازحة

    قدّام قوم، هموا آووا وهم نصروا

    سمّاهم الله الأنصار بنصرهم

    دين الهدى، وعوان الحرب تستعير

    وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

    للنائبات، وما جاموا وما ضجروا

    ففي هذه الأبيات عبّر شاعر الرسول والأنصار عن الحرج الذي أحسّه الأنصار، اذ أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، ولم يعطهم شيئا.

    ورأى زعيم الأنصار سعد بن عبادة.. وسمع قومه يتهامس بعضهم بهذا الأمر، فلم يرضه هذا الموقف، واستجاب لطبيعته الواضحة المسفرة الصريحة، وذهب من فوره الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:

    " يا رسول الله..

    ان هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت..

    قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء"..

    هكذا قال الرجل الواضح كل ما في نفسه، وكل ما في أنفس قومه.. وأعطى الرسول صورة أمينة عن الموقف..

    وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " وأين أنت من ذلك يا سعد"..؟؟

    أي اذا كان هذا رأي قومك، فما رايك أنت..؟؟

    فأجاب سعد بنفس الصراحة قائلا:

    " ما أنا الا من قومي"..

    هنالك قال له النبي:" اذن فاجمع لي قومك"..

    ولا بدّ لنا من أن نتابع القصة الى نهايتها، فان لها روعة لا تقاوم..!

    جمع سعد قومه من الأنصار..

    وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتملّى وجوههم الآسية. وابتسم ابتسامة متألقة بعرفان جميلهم وتقدير صنيعهم..

    ثم قال:

    " يا معشر الأنصار..

    مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم..؟؟

    ألم آتكم ضلالا فهداكم الله..؟؟

    وعالة، فأغناكم الله..؟

    وأعداء، فألف الله بين قلوبكم..؟؟"

    قالوا:

    " بلى الله ورسوله أمنّ وأفضل..

    قال الرسول:

    ألا تجيبونني يا معشر الأنصار..؟

    قالوا:

    بم نجيبك يا رسول الله..؟؟

    لله ولرسوله المن والفضل..

    قال الرسول:

    أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدّقتم:

    أتيتنا مكذوبا، فصدّقناك..

    ومخذولا، فنصرناك...

    وعائلا، فآسيناك..

    وطريدا، فآويناك..

    أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتم الى اسلامكم..؟؟

    ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله الى رحالكم..؟؟

    فوالذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار..

    ولو سلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار..

    اللهم ارحم الأنصار..

    وأبناء الأنصار..

    وأبناء أبناء الأنصار"...!!

    هنالك بكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم.

    فقد ملأت كلمات الرسول الجليل العظيم أفئدتهم سلاما، وأرواحهم ثراء، وأنفسهم عافية..

    وصاحوا جميعا وسعد بن عبادة معهم:

    " رضينا برسول الله قسما وحظا"..




    **



    وفي الأيام الأولى من خلافة عمر ذهب سعد الى أمير المؤمنين، وبنفس صراحته المتطرفة قال له:

    " كان صاحبك أبو بكر،والله، أحب الينا منك..

    وقد ،والله، أصبحت كارها لجوارك"..!!

    وفي هدوء أجابه عمر:

    " ان من كره جوار جاره، تحوّل عنه"..

    وعاد سعد فقال:

    " اني متحوّل الى جوار من هو خير منك"..!!




    **



    ما كان سعد رضي الله عنه بكلماته هذه لأمير المؤمنين عمر ينفّس عن غيظ، أو يعبّر عن كراهية..

    فان من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، لا يرفض الولاء لرجل مثل عمر، طالما رآه موضع تكريم الرسول وحبّه..

    انما أراد سعد وهو واحد من الأصحاب الذين نعتهم القرآن بأنهم رحماء بينهم..

    ألا ينتظر ظروفا، قد تطرأ بخلاف بينه وبين أمير المؤمنين، خلاف لا يريده، ولا يرضاه..




    **



    وشدّ رحاله الى الشام..

    وما كاد يبلغها وينزل أرض حوران حتى دعاه أجله، وأفضى الى جوار ربه الرحيم..
    [IMG]]

  16. #16
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    عبدالله بن عمرو بن العاص - القانت الأوّاب



    القانت، التائب، العابد، الأواب، الذي نستها الحديث عنه الآن هو: عبدالله بن عمرو بن العاص..

    بقجر ما كان أبوه أستاذا في الدكاء والدهاء وسعة الحيلة.. كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين، الواضحين..
    لقد أعطى العبادة وقته كله، وحياته ملها..

    وثمل بحلاوة الايمان، فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه..




    **



    ولقد سبق أباه الى الاسلام، ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعا، وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته..

    عكف أولا على القرآن الذي كان يتنزل منجّما، فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها، حتى اذا تمّ واكتمل، كان لجميعه حافظا..

    ولم يكن يحفظه ليكون مجرّد ذاكرة قوية، تضمّ بين دفتيها كتابا محفوظا..

    بل كان يحفظه ليعمر به قلبه، وليكون بعد هذا عبده المطيع، يحلّ ما أحلّ، ويحرّم ما يحرّم، ويتجيب له في كل ما يدعو اليه ثم يعكف على قراءته، وتدبّره وترتيله، متأنقا في روضاته اليانعات، محبور النفس بما تفيئه آياته الكريمة من غبطة، باكي العين بما تثيره من خشية..!!

    كان عبدالله قد خلق ليكون قد

    قدّيسا عابدا، ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له، وهدي اليه..

    اذا خرج جيش الاسلام الى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه لحروب والعداوة، وجدناه في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب، والحاح عاشق..!!



    فاذا وضعت الحرب أوزارها، فأين نراه..؟؟

    هناك في المسجد الجامع، أو في مسجد داره، صائم نهاره، قائم ليله، لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا، انما هو رطب دائما بذكر الله، تاليا قرآنه، أو مسبّحا بحمده، أو مستغفرا لذنبه..

    وحسبنا ادراكا لأبعاد عبادته ونسكه، أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس الى عبادة الله. يجد نفسه مضطرا للتدخل كما يحد من ايغال عبدالله في العبادة..!!

    وهكذا اذا كان أحد وجهي العظة في حياة عبدالله بن عمرو، الكشف عما تزخر به النفس الانسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقضى درجات التعبّد والتجرّد والصلاح، فان وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد والاعتدال في نشدان كل تفوّق واكتمال، حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها..

    وحتى تبقى للجسد عافيته وسلامته..!!

    لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..

    وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر الى الفجر في عبادة موصولة، صيام وصلاة، وتلاوة قرآن..

    فاستدعاه النبي اليه، وراح يدعوه الى القصد في عبادته..

    قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:

    " ألم اخبر أنك تصوم الناهر، ولا تفطر، وتصلي الليل لا تنام..؟؟

    فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..

    قال عبدالله:

    اني أطيق أكثر من ذلك..

    قال النبي صلى الله عليه وسلم:

    فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين..

    قال عبدالله:

    فاني أطيق أكثر من ذلك..

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    فهل لك اذن في خير الصيام، صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما..

    وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:

    وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة

    واني أخشى أن يطول بك العمر

    وأن تملّ قراءته..!!

    اقرأه في كل شهر مرّة..

    اقرأه في كل عشرة أيام مرّة..

    اقرأه في كل ثلاث مرّة..

    ثم قال له:

    اني أصوم وأفطر..

    وأصلي وأنام.

    وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي

    فليس مني".

    ولقد عمّر عبدالله بن عمرو طويلا.. ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول:

    " يا ليتني قبلت رخصة رسول الله"..




    **



    ان مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور عليه في معركة تدور رحاها بين جماعتين من المسلمين.

    فكيف حملته ساقاه اذن من المدينة الى صفين حيث أخذ مكانا في جيش معاوية في صراعه مع الامام علي..؟

    الحق أن موقف عبدالله هذا، جدير بالتدبّر، بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرا بالتوقير والاجلال..



    رأينا كيف كان عبدالله بن عمرو مقبلا على العبادة اقبالا كاد يشكّل خطرا حقيقيا على حياته، الأمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما، فيشكوه الى رسول الله كثيرا.

    وفي المرة الأخيرة التي امره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدد له مواقيتها كان عمرو حاضرا، فأخذ الرسول يد عبدالله، ووضعها في يد عمرو ابن العاص أبيه.. وقال له:

    " افعل ما أمرتك، وأطع أباك".

    وعلى الرغم من أن عبدالله، كان بدينه وبخلق، مطيعا لأبويه فقد كان أمر الرسول له بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة ذا تأثير خاص على نفسه.

    وعاش عبدالله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة.

    " افعل ما أمرتك، وأطع أباك".




    **



    وتتابعت في موكب الزمن أعوام وأيام

    ورفض معاوية بالشام أن يبايع عليا..

    ورفض علي أن يذعن لتمرّد غير مشروع.

    وقامت الحرب بين طائفتين من المسلمين.. ومضت موقعة الجمل.. وجاءت موقعة صفين.

    كان عمر بن العاص قد اختار طريقه الى جوار معاوية وكان يدرك مدى اجلال المسلمين لابنه عبدالله ومدى ثقتهم في دينه، فأراد أن يحمله على الخروج لي**ب جانب معاوية بذلك الخروجكثيرا..

    كذلك كان عمرو يتفاءل كثيرا بوجود عبدالله الى جواره في قتا، وهو لا ينسى بلاءه معه في فتوح الشام، ويوم اليرموك.

    فحين همّ بالخروج الى صفين دعاه اليه وقال له:

    يا عبدالله تهيأ للخروج، فانك ستقاتل معنا..

    وأجابه عبدالله:

    " كيف وقد عهد اليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم أبدا..؟؟

    وحاول عمرو بدهائه اقناعه بأنهم انما يريدون بخروجهم هذا أن يصلوا الى قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه الزكيّ.

    ثم ألقى مفاجأته الحاسمة قائلا لولده:

    " أتذكر يا عبدالله، آخر عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطع أباك؟..

    فاني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل".

    وخرج عبدالله بن عمرو طاعة لأبيه، وفي عزمه الا يحمل سيفا ولا يقا مسلما..

    ولكن كيف يتم له هذا..؟؟

    حسبه الآن أن يخرج مع أبيه.. أما حين تكون المعركة فلله ساعتئذ امر يقضيه..!

    ونشب القتال حاميا ضاريا..



    ويختاف المؤرخون فيما اذا كان عبدالله قد اشترك في بدايته أم لا..

    ونقول: بدايته.. لأن القتال لم يلبث الا قليلا، حتى وقعت واقعة جعلت عبدالله بن عمرو يأخذ مكانه جهارا ضدّ الحرب، وضدّ معاوية..

    وذلك ان عمّار بن ياسر كان يقاتل مع عليّ وكان عمّار موضع اجلال مطلق من أصحاب الرسول.. وأكثر من هذا، فقد تنبأ في يوم بعيد بمصرعه ومقتله.

    كان ذلك والرسول وأصحابه يبنون مسجدهم بالمدينة اثر هجرتهم اليها..

    وكانت الأحجار عاتية ضخمة لا يطيق أشد الناس قوة أن يحمل منها أكثر من حجر واحد.. لكن عمارا من فرط غبطته وتشوته، راح يحمل حجرين حجرين، وبصر به الرسول فتملاه بعينين دامعتين وقال:

    " ويح ابن سميّة، تقتله الفئة الباغية".

    سمع كل اصحاب رسول الله المشتركين في البناء يومئذ هذه النبوءة، ولا يزالون لها ذاكرين.

    وكان عبدالله بن عمر أحد الذين سمعوا.

    وفد بدء القتال بين جماعة عليّ وجماعة معاوية، كان عمّار يصعد الروابي ويحرّض بأعلى صوته ويصيح.

    " اليوم نلقى الأحبة، محمدا وصحبه".

    وتواصى بقتله جماعة من جيش معاوية، فسددوا نحوه رمية آثمة، نقلته الى عالم الشهداء الأبرار.

    وسرى النبأ كالريح أن عمّار قد قتل..

    وانقضّ عبدالله بن عمرو ثائرا مهتاجا:

    أوقد قتل عمار..؟

    وأنتم قاتلوه..؟

    اذن انتم الفئة الباغية.

    أنتم المقاتلون على ضلالة..!!

    وانطلق في جيش معاوية كالنذير، يثبط عزائمهم، ويهتف فيهم أنهم بغاة، لأنهم قتلوا عمارا وقد تنبأ له الرسول منذ سبع وعشرين سنة على ملأ من المسلمين بأنه ستقتله الفئة الباغية..



    وحملت مقالة عبدالله الى معاوية، ودعا عمرا وولده عبدالله، وقال لعمرو:

    " ألا تكف عنا مجنونك هذا..؟

    قال عبدالله:

    ما أنا بمجنون ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية.

    فقال له معاوية:

    فلم خرجت معنا:؟

    قال عبدالله:

    لأن رسول الله أمرني أن أطيع أبي، وقد أطعته في الخروج، ولكني لا أقاتل معكم.

    واذ هما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار في الدخول، فصاح عبدالله بن عمرو:

    ائذن له وبشره بالنار.

    وأفلتت مغايظ معوية على الرغم من طول أناته، وسعة حلمه، وصاح بعمرو: أو ما تسمع ما يقول..

    وعاد عبدالله في هدوء المتقين واطمئنانهم، يؤكد لمعاوية أنه ما قال الا الحق، وأن الذين قتلوا عمارا ليسوا الا بغاة..

    والتفت صوب أبيه وقال:

    لولا أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معكم هذا المسير.

    وخرج معاوية وعمرو يتفقدان جيشهما، فروّعا حين سمعوا الناس جميعا يتحدثون عن نبوءة الرسول لعمار:

    تقتلك الفئة الباغية.

    وأحس عمرو ومعاوية أن هذه المهمة توشك أن تتحول الى نكوص عن معاوية وتمرّد عليه.. ففكرا حتى وجدا حيلتهما التي مضيا يبثانها في الناس..

    قالا:

    نعم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار ذات يوم:

    تقتلك الفئة الباغية..

    ونبوءة الرسول حق..

    وها هو ذا عمار قد قتل..

    فمن قتله..؟؟

    انما قتله الذين خرجوا به، وحملوه معهم الى القتال"..!!

    وفي مثل هذا الهرج يمكن لأي منطق أن يروّج، وهكذا راج منطق معاوية وعمرو..

    واستأنف الفريقان القتال..

    وعاد عبدالله بن عمرو الى مسجده، وعبادته..




    **



    وعاش حياته لا يملؤها بغير مناسكه وتعبّده..

    غير أن خروجه الى صفين مجرّد خروجه، ظل مبعوث قلق له على الدوام.. فكان لا تلم به الذكرى حتى يبكي ويقول:

    " مالي ولصفين..؟؟

    مالي ولقتال المسلمين"..؟




    **



    وذات يوم وهو جالس في مسجد الرسول مع بعض أصحابه مرّ بهم الحسين بن علي رضي الله عنهما، وتبادلا السلام..

    ولما مضى عنهم قال عبدالله لمن معه:

    " أتحبون أن أخبركم بأحب أهل الأرض الى أهل السماء..؟

    انه هذا الذي مرّ بنا الآن.ز الحسين بن علي..

    وانه ما كلمني منذ صفين..

    ولأن يرضى عني أحب اليّ من حمر النعم"..!!

    واتفق مع أبي سعيد الخدري على زيارة الحسين..

    وهناك في دار الحسين تم لقاء الأكرمين..

    وبدأ عبدالله بن عمرو الحديث، فأتى على ذكر صفين فسأله الحسين معاتبا:

    " ما الذي حملك على الخروج مع معاوية"..؟؟

    قال عبدالله:

    " ذات يوم شكاني عمرو بن العاص الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:

    " ان عبدالله يصوم النهار كله، ويقوم الليل كله.

    فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    يا عبدالله صل ونم.. وصم وافطر.. وأطع أباك..

    ولما كان يوم صفين أقسم عليّ أبي أن أخرج معهم، فخرجت..

    ولكن والله ما اخترطت سيفا، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم"..!!

    وبينما هو يتوقل الثانية والسبعين من عمره المبارك..

    واذ هو في مصلاه، يتضرّع الى ربه، ويسبّح بحمده دعي الى رحلة الأبد، فلبى الدعاء في شوق عظيم..

    والى اخوانه الذين سبقوه بالحسنى، ذهبت روحه تسعى وتطير..

    والبشير يدعوها من الرفيق الأعلى:

    ( يا أيتها النفس المطمئنة..

    ارجعي الى ربك راضية مرضية

    فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)..

    __________________
    [IMG]]

  17. #17
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    سلمة بن الأكوع - بطل المشاة



    أراد ابنه أيّاس أن يلخص فضائله في عبارة واحدة.

    فقال:

    " ماكذب أبي قط"..!!

    وحسب انسان أن يحرز هذه الفضيلة، ليأخذ مكانه العالي بين الأبرار والصالحين.

    ولقد أحرزها سلمة بن الأكوع وهو جدير بها..

    كان سلمة من رماة العرب المعدودين، وكان كذلك من المبرزين في الشجاعة والكرم وفعل الخيرات.

    وحين أسلم نفسه للاسلام، أسلمها صادقا منيبا، فصاغها الاسلام على نسقه العظيم.

    وسلمة بن الأكوع من أصحاب بيعة الرضوان.

    **



    حين خرج الرسول وأصحابه عام ست من الهجرة، قاصدين زيارة البيت الحرام، وتصدّت لهم قلريش تمنعهم.

    أرسل النبي اليهم عثمان بن عفان ليخبرهم أن النبي جاء زائرا لا مقاتلا..

    وفي انتظار عودة عثمان، سرت اشاعة بأن قريشا قد قتلته،وجلس الرسول في ظل الشجرة يتلقى بيهة أصحابه واحدا واحدا على الموت..

    يقول سلمة:

    " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت تحت الشجرة،. ثم تنحيّت، فلما خف الناس قال يا سلمة مالك لا تبايع..؟

    قلت: قد بايعت ي رسول الله، قال: وأبضا.. فبايعته".

    ولقد وفى بالبعة خير وفاء.

    بل وفى بها قبل أن يعطيها، منذ شهد أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..

    يقول:

    " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع زيد بن حارثة تسع غزوات".




    **



    كان سلمة من أمهر الذين يقاتلون مشاة، ويرمون بالنبال والرماح،

    وكانت طريقته تشبه طريقة بعض حروب العصابات الكبيرة التي تتبع اليوم.. فكان اذا هاجمه عدوه تقهقر دونه، فاذا أدبر العدو أو وقف يستريح هاجمه في غير هوادة..

    وبهذه الطريقة استطاع أن يطارد وحده، القوة التي أغارت على مشارف المدينة بقيادة عيينة بن حصن الفزاري في الغزوة المعروفة بغزو ذي قرد..

    خرج في أثرهم وحده، وظل يقاتلهم ويراوغهم، ويبعدهم عن المدينة حتى أدركه الرسول في قوة وافرة من أصحابه..

    وفي هذا اليوم قال الرسول لأصحابه:

    " خير رجّالتنا ، أي مشاتنا، سلمة بن الأكوع"!!




    **



    ولم يعرف سلمة الأسى والجزع الا عند مصرع أخيه عامر بن الأكوع في حرب خيبر..

    وكان عامر يرتجز أمام جيش المسلمين هاتفا:

    لا همّ لولا أنت ما اهتدينا

    ولا تصدّقنا ولا صلّينا

    فأنزلن سكينة علينا

    وثبت الأقدام ان لاقينا

    في تلك المعركة ذهب عامر يضرب بسيفه أحد المشركين فانثنى السيف في يده وأصابت ذوّابته منه مقتلا.. فقال بعض المسلمين:

    " مسكين عامر حرم الشهادة"

    عندئذ لا غير جزع سلمة جزعا شديدا، حين ظنّ كما ظن غيره أن أخاه وقد قتل نفسه خطأ قد حرم أجر الجهاد، وثواب الشهادة.

    لكن الرسول الرحيم سرعان ما وضع الأمرو في نصابها حين ذهب اليه سلمة وقال له:

    أصحيح يا رسول الله أن عامرا حبط عمله..؟

    فأجابه الرسول عليه السلام:

    " انه قتل مجاهدا

    وأن له لأجرين

    وانه الآن ليسبح

    في أنهار الجنة"..!!

    وكان سلمة على جوده المفيض أكثر ما يكون جوادا اذا سئل بوجه الله..

    فلو أن انسانا سأله بوجه الله أن يمنحه حياته، لما تردد في بذلها.

    ولقد عرف الناس منه ذلك، فكان أحدهم اذا أراد أن يظفر منه بشيء قال له:

    " من لم يعط بوجه الله، فبم يعطي"..؟؟




    **



    ويوم قتل عثمان، رضي الله عنه، أدرك المجاهد الشجاع أن أبواب الفتنة قد فتحت على المسلمين.

    وما كان له وهو الذي قضى عمره يقاتل بين اخوانه أن يتحول الى مقاتل ضد اخوانه..

    أجل ان الرجل الذي حيّا الرسول مهارته في قتال المشركين، ليس من حقه أن يقاتل بهذه المهارة مسلما..

    ومن ثمّ، فقد حمل متاعه وغادر المدينة الى الربدة.. نفس المكان الذي اختاره أبو ذر من قبل مهاجرا له ومصيرا.

    وفي الرّبدة عاش سلمة بقية حياته، حتى كان يوم عام أربعة وسبعين من الهجرة، فأخذه السوق الى المدينة فسافر اليها زائرا، وقضى بها يوما، وثانيا..

    وفي اليوم الثالث مات.

    وهكذا ناداه ثراها الحبيب الرطيب ليضمّه تحت جوانحه ويؤويه مع من آوى قبله من الرفاق المباركين، والشهداء الصالحين.
    [IMG]]

  18. #18
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    عباد بن بشر - معه من الله نور


    **===========**

    عندما نزل مصعب بن عمير المدينة موفدا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعلم الأنصار الذين بايعوا الرسول على الاسلام، وليقيم بهم الصلاة، كان عباد بن بشر رضي الله عنه واحدا من الأبرار الذين فتح الله قلوبهم للخير، فأقبل على مجلس مصعب وأصغى اليه ثم بسط يمينه يبايعه على الاسلام، ومن يومئذ أخذ مكانه بين الأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه..
    وانتقل النبي الى المدينة مهاجرا، بعد أن سبقه اليها المؤمنون بمكة.

    وبدأت الغزوات التي اصطدمت فيها قوى الخير والنور مع قوى الظلام والشر.

    وفي تلك المغازي كان عباد بن بشر في الصفوف الأولى يجاهد في سبيل الله متفانيا بشكل يبهر الألباب.

    *=================*

    ولعل هذه الواقعة التي نرويها الآن تكشف عن شيء من بطولة هذا المؤمن العظيم..

    بعد أن فرغ رسول الله والمسلمين من غزوة ذات الرقاع نزلوا مكانا يبيتون فيه، واختار الرسول للحراسة نفرا من الصحابة يتناوبونها وكان منهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر في نوبة واحدة.

    ورأى عباد صاحبه عمار مجهدا، فطلب منه أن ينام أول الليل على أن يقوم هو بالحراسة حتى يأخذ صاحبه من الراحة حظا يمكنه من استئناف الحراسة بعد أن يصحو.

    ورأى عباد أن المكان من حوله آمن، فلم لا يملأ وقته اذن بالصلاة، فيذهب بمثوبتها مع مثوبة الحراسة..؟!

    وقام يصلي..

    واذ هو قائم يقرأ بعد فاتحة الكتاب سور من القرآن، احترم عضده سهم فنزعه واستمر في صلاته..!

    ثم رماه المهاجم في ظلام الليل بسهم ثان نزعه وأنهى تلاوته..

    ثم ركع، وسجد.. وكانت قواه قد بددها الاعياء والألم، فمدّ يمينه وهو ساجد الى صاحبه النائم جواره، وظل يهزه حتى استيقظ..

    ثم قام من سجوده وتلا التشهد.. وأتم صلاته.

    وصحا عمار على كلماته المتهدجة ال****ة تقول له:

    " قم للحراسة مكاني فقد أصبت".

    ووثب عمار محدثا ضجة وهرولة أخافت المتسللين، ففرّوا ثم التفت الى عباد وقال له:

    " سبحان الله..

    هلا أيقظتني أوّل ما رميت"؟؟

    فأجابه عباد:

    " كنت أتلو في صلاتي آيات من القرآن ملأت نفسي روعة فلم أحب أن أقطعها.

    ووالله، لولا أن أضيع ثغرا أمرني الرسول بحفظه، لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها"..!!


    *===============*
    كان عباد شديد الولاء والحب لله، ولرسوله ولدينه..

    وكان هذا الولاء يستغرق حياته كلها وحسه كله.

    ومنذ سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطبا الأنصار الذين هو منهم:

    " يا معشر الأنصار..

    أنتم الشعار، والناس الدثار..

    فلا أوتيّن من قبلكم".

    نقول منذ سمع عباد هذه الكلمات من رسوله، ومعلمه، وهاديه الى الله، وهو يبذل روحه وماله وحياته في سبيل الله وفي سبيل رسوله..

    في مواطن التضحية والموت، يجيء دوما أولا..

    وفي مواطن الغنيمة والأخذ، يبحث عنه أصحابه في جهد ومشقة حتى يجدوه..!

    وهو دائما: عابد، تستغرقه العبادة..

    بطل، تستغرقه البطولة..

    جواد، يستغرقه الجود..

    مؤمن قوي نذر حياته لقضية الايمان..!!

    وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

    " ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد:

    " سعد بن معاذ..

    وأسيد بن خضير..

    وعبّاد بن بشر...

    *=================*
    وعرف المسلمون الأوائل عبادا بأنه الرجل الذي معه نور من الله..

    فقد كانت بصيرته المجلوّة المضاءة تهتدي الى مواطن الخير واليقين في غير بحث أو عناء..

    بل ذهب ايمان اخوانه بنوره الى الحد الذي أسبغوا عليه في صورة الحس والمادة، فأجمعوا على ان عبادا كان اذا مشى في الظلام انبعثت منه أطياف نور وضوء، تضيء له الطريق..

    *==================*
    وفي حروب الردة، بعد وفاة الرسول عليه السلام، حمل عباد مسؤولياته في استبسال منقطع النظير..

    وفي موقعة اليمامة التي واجه المسلمون فيها جيشا من أقسى وأمهر الجيوش تحت قيادة مسيلمة الكذاب أحسّ عبّاد بالخطر الذي يتهدد الاسلام..

    وكانت تضحيته وعنفوانه يتشكلان وفق المهام التي يلقيها عليه ايمانه، ويرتفعان الى مستوى احساسه بالخطر ارتفاعا يجعل منه فدائيا لا يحرص على غير الموت والشهادة..

    *==================*
    وقبل أن تبدأ معركة اليمامة بيوم، رأى في منامه رؤيا لم تلبث أن فسرت مع شمس النهار، وفوق أرض المعركة الهائلة الضارية التي خاضها المسلمون..

    ولندع صحابيا جليلا هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقص علينا الرؤيا التي رآها عبّاد وتفسيره لها، ثم موقفه الباهر في القتال الذي انتهى باستشهاده..

    يقول أبو سعيد:

    " قال لي عباد بن بشر يا أبا سعيد رأيت الليلة، كأن السماء قد فرجت لي، ثم أطبقت عليّ..

    واني لأراها ان شاء الله الشهادة..!!

    فقلت له: خيرا والله رأيت..

    واني لأنظر اليه يوم اليمامة، وانه ليصيح بالأنصار:

    احطموا جفون السيوف، وتميزوا من الناس..

    فسارع اليه أربعمائة رجل، كلهم من الأنصار، حتى انتهوا الى باب الحديقة، فقاتلوا أشد القتال..

    واستشهد عباد بن بشر رحمه الله..

    ورأيت في وجهه ضربا كثيرا، وما عرفته الا بعلامة كانت في جسده..

    *================*

    هكذا ارتفع عباد الى مستوى واجباته كؤمن من الأنصار، بايع رسول الله على الحياة لله، والموت في سبيله..

    وعندما رأى المعركة الضارية تتجه في بدايتها لصالح الأعداء، تذكر كلمات رسول الله لقومه الأنصار:

    " أنتم الشعار..

    فلا أوتيّن من قبلكم"..

    وملأ الصوت روعه وضميره..

    حتى لكأن الرسول عليه الصلاة والسلام قائم الآن يردده كلماته هذه..

    وأحس عباد أن مسؤولية المعركة كلها انما تقع على كاهل الأنصار وحدهم.. أو على كاهلهم قبل سواهم..

    هنالك اعتلى ربوة وراح يصيح:

    " يا معشر الأنصار..

    احطموا جفون السيوف..

    وتميزوا من الناس..

    وحين لبّى نداءه أربعمائة منهم قادهم هو وأبو دجانة والبراء ابن مالك الى حديقة الموت حيث كان جيش مسيلمة يتحصّن.. وقاتل البطل القتال اللائق به كرجل.. وكمؤمن.. وكأنصاري..

    *=================*
    وفي ذلك اليوم المجيد استشهد عباد..

    لقد صدقت رؤياه التي رآها في منامه بالأمس..

    ألم يكن قد رأى السماء تفتح، حتى اذا دخل من تلك الفرجة المفتوحة، عادت السماء فطويت عليه، وأغلقت؟؟

    وفسرّها هو بأن روحه ستصعد في المعركة المنتظرة الى بارئها وخالقها..؟؟

    لقد صدقت الرؤيا، وصدق تعبيره لها.

    ولقد تفتحت أبواب السماء لتستقبل في حبور، روح عبّاد بن بشر..

    الرجل الذي كان معه من الله نور..!!
    [IMG]]

  19. #19
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    أبو عبيدة بن الجرّاح - أمين هذه الأمة



    من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه:

    " ان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟

    من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا اعمرو بن العاص، وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟

    من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟

    من هذا الطويل القامة النحيف الجسم، المعروق الوجه، الخفيف اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين..؟؟

    أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه:

    " لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت: استخافت أمين الله، وأمين رسوله"..؟؟

    انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح..
    أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للاسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم، وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر، وأحد، وبقيّة المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة.




    **



    عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن ينفق حياته في سبيل الله، كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث، في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية..



    ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله، وهو لا يرى في نفسه، وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته، فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة..

    ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب، رأى الرسول في مسلك ضميره، ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه،وأهداه اليه، فقال عليه الصلاة والسلام:

    " أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجرّاح".




    **



    ان أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته، لهي أبرز خصاله.. فففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين، لا على احراز النصر في الحرب، بل قبل ذلك ودون ذلك، على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..

    ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله..



    وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل، ترقبانه في حرص وقلق..

    وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!!

    وفي احدى جولاته تلك، وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين، وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله، وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي، وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف، حتى فرّقهم عنه، وطار صواب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول:

    " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعهم الى ربهم"..؟

    ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي، فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيّة، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيّة الثانية..

    وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصدسق يصف لنا هذا المشهد بكلماته:

    " لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر، أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه..

    ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم."!!



    وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت، كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته..

    فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة، والسفر بعيد، استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة، وراح هو وجنوده يقطعون الأرض، وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا، حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي، يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط، أي ورق الشجر بقسيّهم، فيسحقونه ويشربون عليه الامء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط..

    لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان، ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!!




    **



    لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا...

    ويوم جاء وفد نجلاان من اليمن مسلمين، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام، قال لهم رسول الله:

    " لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين.. حق أمين"..!!

    وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..

    يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

    " ما أحببت الامارة قط، حبّي اياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت الى الظهر مهجّرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني..

    فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: أخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!

    ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره..

    انما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية، وهذا التقدير الكريم..

    ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة، وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها..

    وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا، عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا..



    ولقد سار تحت راية الاسلام أنذى سارت، جنديّا، كأنه بفضله وباقدامه الأمير.. وأميرا، كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة المقاتلين..

    وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد..



    لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر، وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد، فطن، أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..

    وآنئذ، تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!!

    ويسأله خالد:

    " يرحمك الله يا أبا عبيدة.ز ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟

    فيجيبه أمين الأمة:

    " اني كرهت أن أ**ر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله اخوة".!!!




    **



    ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا..

    فما كنت تحسبه حين تراه الا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..

    وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..

    فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، وأ/انته..

    " يا أيها الناس..

    اني مسلم من قريش..

    وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه"..ّّ

    حيّاك الله يا أبا عبيدة..

    وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك..

    مسلم من قريش، لا أقل ولا أكثر.

    الدين: الاسلام..

    والقبيلة: قريش.

    هذه لا غير هويته..

    أما هو كأمير الأمراء، وقائد لأكثر جيوش الاسلام عددا، وأشدّها بأسا، وأعظمها فوزا..

    أما هو كحاكم لبلاد الشام،أمره مطاع ومشيئته نافذة..

    كل ذلك ومثله معه، لا ينال من انتباهه لفتة، وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!!




    **



    ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام، ويسأل مستقبليه:

    أين أخي..؟

    فيقولون من..؟

    فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح.

    ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه الى داره، فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد الا سيفه، وترسه ورحله..

    ويسأله عمر وهو يبتسم:

    " ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟

    فيجيبه أبو عبيدة:

    " يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل"..!!




    **



    وذات يوم، وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤن عالمه المسلم الواسع، جاءه الناعي، أن قد مات أبو عبيدة..

    وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع..

    وغاض الدمع، ففتح عينيه في استسلام..

    ورحّم على صاحبه، واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..

    وأعاد مقالته عنه:

    " لو كنت متمنيّا، ما تمنيّت الا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..




    **

    ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان..

    زهناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل، كان مستقرا لروح خير، ونفس مطمئنة..

    وسواء عليه، وعليك، أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف..

    فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة الى من يقودك اليه..

    ذلك أن عبير رفاته، سيدلك عليه..!!
    [IMG]]

  20. #20
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    بسم الله الرحمن الرحيم


    جعفر بن أبي طالب - أشبهت خلقي، وخلقي


    انظروا جلال شبابه..

    انظروا نضارة اهابه..

    انظروا أناته وحلمه، حدبه، وبرّه، تواضعه وتقاه..

    انظروا شجاعته التي لا تعرف الخوف.. وجوده الذي لايخاف الفقر..

    انظروا طهره وعفته..

    انظروا صدقه وأمانته...
    انظروا فيه كل رائعة من روائع الحسن، والفضيلة، والعظمة، ثم لا تعجبوا، فأنتم أمام أشبه الناس بالرسول خلقا، وخلقا..

    أنتم أمام من كنّاه الرسول بـ أبي المساكين..

    أنت تجاه من لقبه الرسول بـ ذي الجناحين..

    أنتم تلقاء طائر الجنة الغريد، جعفر بن أبي طالب..!! عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين أسهموا أعظم اسهام في صوغ ضمير الحياة..!!


    **

    أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم مسلما، آخذا مكانه العالي بين المؤمنين المبكرين..

    وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عميس..

    وحملا نصيبهما من الأذى ومن الاضطهاد في شجاعة وغبطة..

    فلما اختار الرسول لأصحابه الهجرة الى الحبشة، خرج جعفر وزوجه حيث لبيا بها سنين عددا، ر**ا خلالها بأولادهما الثلاثة محمد، وعبد الله، وعوف...


    **

    وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب المتحدث اللبق، الموفق باسم الاسلام ورسوله..

    ذلك أن الله أنعم عليه فيما أنعم، بذكاء القلب، واشراق العقل، وفطنة النفس، وفصاحة اللسان..

    ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل فيه فيما بعد حتى يستشهد.. أروع أيامه وأمجاده وأخلدها..

    فان يوم المحاورة التي أجراها أمام النجاشي بالحيشة، لن يقلّ روعة ولا بهاء، ولا مجدا..

    لقد كان يوما فذّا، ومشهدا عجبا...


    **

    وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها، ولم يذهب من غيظها، ولم يطامن كم أحقادها، هجرة المسلمين الى الحبشة، بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم، ويتكاثر طمعهم.. وحتى اذا لم تواتهم فرصة التكاثر والقوّة، فقد عز على كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها، ويفلتوا من قبضتها.. يظلوا هناك في مهاجرهم أملا رحبا تهتز له نفس الرسول، وينشرح له صدر الاسلام..

    هنالك قرر ساداتها ارسال مبعوثين الى النجاشي يحملان هدايا قريش النفيسة، ويحملان رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاؤوا اليها لائذين ومستجيرين...

    وكان هذان المبعوثان: عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وكانا لم يسلما بعد...


    **

    كان النجاشي الذي كان يجلس أيامئذ على عرش الحبشة، رجلا يحمل ايمانا مستنيرا.. وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية واعية، بعيدة عن الانحراف، نائية عن التعصب والانغلاق...

    وكان ذكره يسبقه.. وسيرته العادلة، تنشر غبيرها في كل مكان تبلغه..

    من أجل هذا، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه..

    ومن أجل هذا، خافت قريش ألا تبلغ لديه ما تريد فحمّلت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة، وكبار رجال الكنيسة هناك، وأوصى زعماء قريش مبعوثيهاألا يقابلا النجاشي حتى يعطيا الهدايا للبطارقة أولا، وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما، ليكونوا لهم عونا عند النجاشي.

    وحطّ الرسولان رحالهما بالحبشة، وقابلا بها الزعماء الروحانيين كافة، ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها اليهم.. ثم أرسلا للنجاشي هداياه..

    ومضيا يوغران صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين، ويستنجدان بهم لحمل النجاشي، ويواجهان بين يديه خصوم قريش الذين تلاحقهم بكيدها وأذاها.

    **

    وفي وقار مهيب، وتواضع جليل، جلس النجاشي على كرسيه العالي، تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية، وجلس أمامه في البهو الفسيح، المسلمون المهاجرون، تغشاهم سكينة الله، وتظلهم رحمته.. ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردّداه أمام النجاشي حين أذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع الحاشد الكبير:

    " أيها الملك.. انه قد ضوى لك الى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، بل جاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، أعمامهم، وعشائرهم، لتردّهم اليهم"...

    وولّى النجاشي وجهه شطر المسلمين، ملقيا عليهم سؤاله:

    " ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، واستغنيتم به عن ديننا"..؟؟

    ونهض جعفر قائما.. ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها ابّان تشاورهم، وقبل مجيئهم الى هذا الاجتماع..

    نهض جعفر في تؤدة وجلال، وألقى نظرات محبّة على الملك الذي أحسن جوارهم وقال:

    " يا أيها الملك..

    كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله الينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا الى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان..

    وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء..

    ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به، واتبعناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فغدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا الى عبادة الأوثان، والى ما كنّا عليه من الخبائث..

    فلما قهرونا، وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا الى بلادك ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك"...


    **

    ألقى جعفر بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر، فملأت نفس النجاشي احساسا وروعة، والتفت الى جعفر وساله:

    " هل معك مما أنزل على رسولكم شيء"..؟

    قال جعفر: نعم..

    قال النجاشي: فاقرأه علي..

    ومضى حعفر يتلو لآيات من سورة مريم، في أداء عذب، وخشوع فبكى النجاشي، وبكى معه أساقفته جميعا..

    ولما كفكف دموعه الهاطلة الغزيرة، التفت الى مبعوثي قريش، وقال:

    " ان هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة..

    انطلقا فلا والله، لا أسلمهم اليكما"..!!

    **

    انفضّ الجميع، وقد نصر الله عباده وآرهم، في حين رزئ مندوبا قريش بهزيمة منكرة..

    لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة، لا يتجرّع الهزيمة، ولا يذعن لليأس..

    وهكذا لم يكد يعود مع صاحبه الى نزلهما، حتى ذهب يفكّر ويدبّر، وقال لزميله:

    " والله لأرجعنّ للنجاشي غدا، ولآتينّه عنهم بما يستأصل خضراءهم"..

    وأجابه صاحبه: " لا تفعل، فان لهم أرحاما، وان كانوا قد خالفونا"..

    قال عمرو: " والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، كبقية العباد"..

    هذه اذن هي المكيدة الجديدة الجديدة التي دبّرها مبعوث قريش للمسلمين كي يلجئهم الى الزاوية الحادة، ويضعهم بين شقّي الرحى، فان هم قالوا عيسى عبد من عباد الله، حرّكوا ضدهم أضان الملك والأساقفة.. وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم...!!


    **

    وفي الغداة أغذا السير الى مقابلة الملك، وقال له عمرو:

    " أيها الملك: انهم ليقولون في عيسى قولا عظيما".

    واضطرب الأساقفة..

    واهتاجتهم هذه العبارة القصيرة..

    ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم عن موقف دينهم من المسيح..

    وعلم المسلمون بالمؤامرة الجديدة، فجلسوا يتشاورون..

    ثم تفقوا على أن يقولوا الحق الذي سمعون من نبيهم عليه الصلاة والسلام، لايحيدون عنه قيد شعرة، وليكن ما يكن..!!

    وانعقد الاجتماع من جديد، وبدأ النجاشي الحديث سائلا جعفر:

    "ماذا تقولون في عيسى"..؟؟

    ونهض جعفر مرة أخرى كالمنار المضيء وقال:

    " نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه"..

    فهتف النجاشي نصدّقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه..

    لكنّ صفوف الأساقفة ضجّت بما يسبه النكير..

    ومضى النجاشي المستنير المؤمن يتابع حديثه قائلا للمسلمين:

    " اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، ومن سبّكم أو آذاكم، فعليه غرم ما يفعل"..

    ثم التفت صوب حاشيته، وقال وسبّابته تشير الى مبعوثي قريش:

    " ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها...

    فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه"...!!

    وخرج مبعوثا قريش مخذولين، حيث وليّا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائين اليها...

    وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة، لابثين فيها كما قالوا:" بخير دار.. مع خير جار.." حتى يأذن الله لهم بالعودة الى رسولهم واخوانهم وديارهم...

    **

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه من كانوا لا يزالون في الحبشة من المهاجرين..

    وأفعم قلب الرسول عليه الصلاة والسلام بمقدمة غبطة، وسعادة وبشرا..

    وعانقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:

    " لا أدري بأيهما أنا أسرّ بفتح خيبر.. أم بقدوم جعفر..".

    وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الى مكة، حيث اعتمروا عمرة القضاء، وعادوا الى المدينة، وقد اكتلأت نفس جعفر روعة بما سمع من انباء اخوانه المؤمنين الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، وأحد.. وغيرهما من المشاهد والمغازي.. وفاضت عيناه بالدمع على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقضوا نحبهم شهداء أبرار..

    وطار فؤداه شوقا الى الجنة، وأخذ يتحيّن فرصة الشهادة ويترقب لحظتها المجيدة..!!

    **

    وكانت غزوة مؤتة التي أسلفنا الحديث عنها، تتحرّك راياتها في الأفق متأهبة للزحف، وللمسير..

    ورأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر، فامّا أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله، واما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله..

    وتقدّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا..

    كان جعفر يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة.. بل ولا حربا صغيرة، انما هي حرب لم يخض الاسلام منها من قبل.. حرب مع جيوش امبراطورية عريضة باذخة، تملك من العتاد والأعداد، والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به، ومع هذا طار شوقا اليها، وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه..

    وخرج الجيش وخرج جعفر معه..

    والتقى الجمعان في يوم رهيب..

    وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف مقاتل، فانه على الع**، أخذته نشوة عارمة اذا احسّ في أنفه المؤمن العزيز، واعتداد البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..!!

    وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة، حتى تلقاها جعفر باليمين ومضى يقاتل بها في اقدام خارق.. اقدام رجل لا يبحث عن النصر، بل عن الشهادة...

    وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم، و{اى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل.. وراح يصوب سيفه ويسدده الى نحور أعدائه كنقمة القدر.. ولمح واحدا من األأعداء يقترب من فرسه ليعلو ظهرها، فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس، فبسط نحوها سيفه، وعقرها..!!

    وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالاعثار، وصوته يتعالى بهذا الزجر المتوهج:

    يا حبّذا الجنة واقترابها طيّبة، وبارد شرابها

    والروم روم، قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها

    عليّ اذا لاقيتها ضرابها

    وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل، وكانه جيش لجب..

    وأحاطوا به في اصرار مجنون على قتله.. وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة..

    وضربوا بالسيوف يمينه، وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله.. وضربوها هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه..

    في هذه اللحظة تركّزت كل مسؤوليته في ألا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حيّ..

    وحين تكّومت جثته الطاهرة، كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه، ونادت خفقاتها عبدالله بن رواحة فشق الصفوف كالسهم نحوها، واخذها في قوة، ومضى بها الى مصير عظيم..!!


    **


    وهكذا صنع جعفر لنفسه موتة من أعظم موتات البشر..!!

    وهكذا لقي الكبير المتعال، مضمّخا بفدائيته، مدثرا ببطولاته..

    وأنبأ العليم الخبير رسوله بمصير المعركة، وبمصير جعفر، فاستودعه الله، وبكى..

    وقام الى بيت ابن عمّه، ودعا بأطفاله وبنيه، فشمّمهم، وقبّلهم، وذرفت عيناه..

    ثم عاد الى مجلسه، وأصحابه حافون به. ووقف شاعرالاسلام حسّان بن ثابت يرثي جعفر ورفاقه:

    غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم

    الى الموت ميمون النقيبة أزهر

    أغرّ كضوء البدر من آل هاشم

    أبيّ اذا سيم الظلامة مجسر

    فطاعن حتى مال غير موسد

    لمعترك فيه القنا يت**ّر

    فصار مع المستشهدين ثوابه

    جنان، ومتلف الحدائق أخضر

    وكنّا نرى في جعفر من محمد

    وفاء وأمرا حازما حين يأمر

    فما زال في الاسلام من آل هاشم

    دعائم عز لا يزلن ومفخر



    وينهض بعد حسّان، كعب بن مالك، فيرسل شعره الجزل :

    وجدا على النفر الذين تتابعوا

    يوما بمؤتة، أسندوا لم ينقلوا

    صلى الاله عليهم من فتية

    وسقى عظامهم الغمام المسبل

    صبروا بمؤتة للاله نفوسهم

    حذر الردى، ومخافة أن ينكلوا

    اذ يهتدون بجعفر ولواؤه

    قدّام أولهم، فنعم الأول

    حتى تفرّجت الصفوف وجعفر

    حيث التقى وعث الصفوف مجدّل

    فتغير القمر المنير لفقده

    والشمس قد **فت، وكادت تأفل



    وذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم، فقد كان جعفر رضي الله عنه أبا المساكين..

    يقول أبو هريرة:

    " كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب"...

    أجل كان أجود الناس بماله وهو حيّ.. فلما جاء أجله أبى الا أن يكون من أجود الشهداء وأكثرهم بذلا لروحه وحيته..



    يقول عبدالله بن عمر:

    " كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه، فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة"..!!

    بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح..؟؟!!

    ومع هذا، فهل نال القتلة من روحه ومن مصيره منالا..؟؟

    أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد الى جوار الله الأعلى الرحيم، حيث نزل في رحابه مكانا عليّا..

    انه هنالك في جنان الخلد، يحمل أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح..

    وان شئتم، فاسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " لقد رأيته في الجنّة.. له جناحان مضرّجان بالدماء.. مصبوغ القوادم"...!!!
    [IMG]]

  21. #21
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    قيس بن سعد بن عبادة - أدهى العرب، لولا الاسلام


    كان الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم..

    وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا"..

    ذلك أنه كان أجرد، ولم يكن ينقصه من صفات الزعامة في عرف قومه سوى اللحية التي كان الرجال يتوّجون بها وجوههم.
    فمن هذا الفتى الذي ودّ قومه لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية ت**و وجهه، وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية، وزعامته المتفوقة..؟؟

    انه قيس بن سعد بن عبادة.

    من أجود بيوت لعرب وأعرقها.. البيت الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام:

    " ان الجود شيمة أهل هذا البيت"..

    وانه الداهية الذي يتفجر حيلة، ومهارة، وذكاء، والذي قال عن نفسه وهو صادق:

    " لولا الاسلام، لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"..!!

    ذلك أنه حادّ الذكاء، واسع الحيلة، متوقّد الذهن.



    ولقد كان مكانه يوم صفين مع علي ضدّ معاوية.. وكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يمكن أن يؤدي بمعاوية وبمن معه في يوم أو ببعض يوم، بيد أنه يتفحص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكر السيء الخطر، ثم يذكر قول الله سبحانه:

    ( ولا يحيق المكر السوء الا بأهله)..

    فيهبّ من فوره مستنكرا، ومستغفرا، ولسان حاله يقول:

    " والله لئن قدّر لمعاوية أن يغلبنا، فلن يغلبنا بذكائه، بل بورعنا وتقوانا"..!!

    ان هذا الأنصاري الخزرجي من بيت زعامة عظيم، ورث المكارم كابرا عن كابر.. فهو ابن سعد بن عبادة، زعيم الخزرج الذي سيكون لنا معه فيما بعد لقاء..

    وحين أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس وقدّمه الى الرسول قائلا:

    " هذا خادمك يا رسول الله"..

    ورأى لرسول في قيس كل سمات التفوّق وأمائر الصلاح..

    فأدناه منه وقرّبه اليه وظل قيس صاحب هذه المكانة دائما..

    يقول أنس صاحب رسول الله:

    " كان قيس بن سعد من النبي، بمكان صاحب الشرطة من الأمير"..

    وحين كان قيس، قبل الاسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن، ولم يكن في المدينة وما حولها الا من يحسب لدهائه ألف حساب.. فلما أسلم، علّمه الاسلام أن يعامل الناس باخلاصه، لا بدهائه، ولقد كان ابنا بارّا للاسلام، ومن ثمّ نحّى دهاءه جانبا، ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية.. وصار كلما واجه موقعا صعبا، يأخذه الحنين الى دهائه المقيد، فيقول عبارته المأثورة:

    " لولا الاسلام، لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"...!!




    **



    ولم يكن بين خصاله ما يفوق ذكائه سوى جوده.. ولم يكن الجود خلقا طارئا على قيس، فهو من بيت عريق في الجود والسخاء، كان لأسرة قيس، على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ، مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان الى طعامهم نهارا... أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا.. وكان الناس يومئذ يقولون:" من أحبّ الشحم، واللحم، فليأت أطم دليم بن حارثة"...

    ودليم بن حارثة، هو الجد الثاني لقيس..

    ففي هذا البيت العريق أرضع قيس الجود والسماح..

    تحّث يوما أبا بكر وعمر حول جود قيس وسخائه وقالا:

    " لو تركنا هذا الفتى لسخائه، لأهلك مال أبيه"..

    وعلم سعد بن عبادة بمقالتهما عن ابنه قيس، فصاح قائلا:

    " من يعذرني من أبي قحافة، وابن الخطّاب.. يبخلان عليّ ابني"..!!

    وأقرض أحد اخوانه المعسرين يوما قرضا كبيرا..

    وفي الموعد المضروب للوفاء ذهب الرجل يردّ الى قيس قرضه فأبى أن يقبله وقال:

    " انا لا نعود في شيء أعطيناه"..!!




    **



    وللفطرة الانسانية نهج لا يتخلف، وسنّة لا تتبدّل.. فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة..

    أجل ان الجود الحقيقي والشجاعة الحقيقية توأمان، لا يتخلف أحدهما عن الاخر أبدا.. واذا وجدت جودا ولم تجد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس جودا.. وانما هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر الزهو الأدّعاء... واذا وجدت شجاعة لا يصاحبها جود، فاعلم أنها ليست شجاعة، انما هي نزوة من نزوات التهوّر والطيش...



    ولما كان قيس بن سعد يمسك أعنة الجود بيمينه فقد كان يمسك بذات اليمين أعنّة الشجاعة والاقدام..



    لكأنه المعنيّ بقول الشاعر:

    اذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

    تألقت شجاعته في جميع المشاهد التي صاحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حيّ..

    وواصلت تألقها، في المشاهد التي خاضها بعد أن ذهب الرسول الى الرفيق الأعلى..

    والشجاعة التي تعتمد على الصدق بدل الدهاء.. وتتوسل بالوضوح والماوجهة، لا بالمناورة والمراوغة، تحمّل صاحبها من المصاعب والمشاق من يؤوده ويضنيه..

    ومنذ ألقى قيس وراء ظهره، قدرته الخارقة على الدهاء والمناورة، وحمل هذا الطراز من الشجاعة المسفرة الواضحة، وهو قرير العين بما تسببه له من متاعب وما تجلبه من تبعات...

    ان الشجاعة الحقة تنقذف من اقتناع صاحبها وحده..

    هذا الاقتناع الذي لا تكوّنه شهوة أو نزوة، انما يكوّنه الصدق مع النفس، والاخلاص للحق...



    وهكذا حين نشب الخلاف بين عليّ ومعاوية، نرى قيسا يخلوبنفسه، ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه، حتى اذا ما رآه مع عليّ ينهض الى جواره شامخا، قويا مستبسلا..

    وفي معارك صفّين، والجمل، ونهروان، كان قيس أحد أبطالها المستبسلين..

    كان يحمل لواء الأنصار وهو يصيح:

    هذا اللواء الذي كنا نخفّ به

    مع النبي وجبريل لنا مدد

    ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته

    ألا يكون له من غيرهم أحد

    ولقد ولاه الامام عليّ حكم مصر..

    وكانت عين معاوية على مصر دائما... كان ينظر اليها كأثمن درّة في تاجه المنتظر...



    من أجل ذلك لم يكد يرى قيسا يتولى امارتها حتى جنّ جنونه وخشي أن يحول قيس بينه وبين مصر الى الأبد، حتى لو انتصر هو على الامام عليّ انتصارا حاسما..

    وهكذا راح بكل وسائله الماكرة، وحيله التي لا تحجم عن أمر، يدسّ عند علي ضدّ قيس، حتى استدعاه الامام منمصر..



    وهنا وجد قيس فرصة سعيدة ليستكمل ذكاءه استعمالا مشروعا، فلقد أدرك بفطنته أن معاوية لعب ضدّه هذه اللعبة بعد أن فشل في استمالته الى جانبه، لكي يوغر صدره ضدّ الامام علي، ولكي يضائل من ولائه له.. واذن فخير رد على دهاء معاوية هو المزيد من الولاء لعليّ وللحق الذي يمثله عليّ، والذي هو في نفس الوقت مناط الاقتناع الرشيد والأكيد لقيس بن سعد بن عبادة..

    وهكذا لم يحس لحظة أن عليّا عزله عن مصر.. فما الولاية، وما الامارة، وما المناصب كلها عند قيس الا أدوات يخدم بها عقيدته ودينه.. ولئن كانت امارته على مصر وسيلة لخدمة الحق، فان موقفه بجوار عليّ فوق أرض المعركة وسيلة أخرى لا تقل أهميّة ولا روعة..




    **



    وتبلغ شجاعة قيس ذروة صدقها ونهاها، بعد استشهاد عليّ وبيعة الحسن..

    لقد اقتنع قيس بأن الحسن رضي الله عنه، هو الوارث الشرعي للامامة فبايعه ووقف الى جانبه غير ملق الى الأخطار وبالا..

    وحين يضطرّهم معاوية لامشاق السيوف، ينهض قيس فيقود خمسة آلاف من الذين حلقوا رؤوسهم حدادا على الامام علي..

    ويؤثر الحسن أن يضمّد جراح المسلمين التي طال شحوبها، ويضع حدّا للقتال المفني المبيد فيفاوض معاوية ثم يبايعه..



    هنا يدير قيس خواطره على المسألة من جديد، فيرى أنه مهما يكن في موقف الحسن من الصواب، فان لجنود قيس في ذمّته حق الشورى في اختيار المصير، وهكذا يجمعهم ويخطب فيهم قائلا:

    " ان شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا، وان شئتم أخذت لكم أمانا:..

    واختار جنوده الأمر الثاني، فأخذ لهم الامام من معاوية الذي ملأ الحبور نفسه حين رأى مقاديره تريحه من أقوى خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة...

    وفي المدينة المنوّرة، عام تسع وخمسين، مات الداهية الذي روّض الاسلام دهاءه..

    مات الرجل الذي كان يقول:

    لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ب\يقول:

    " المكر والخديعة في النار، لكنت من أمكر هذه الأمة"..

    أجل.. ومات تاركا وراءه عبير رجل أمين على كل ما للاسلام عنده من ذمّة، وعهد وميثاق
    [IMG]]

  22. #22
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    زيد بن الخطاب - صقر يوم اليمامة


    جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوما، وحوله جماعة من المسلمين وبينما الحديث يجري، أطرق الرسول لحظات، ثم وجّه الحديث لمن حوله قائلا:

    " ان فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من جبل أحد"..

    وظل الخوف بل لرعب من الفتنة في الدين، يراود ويلحّ على جميع الذين شهدوا هذا المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... كل منهم يحاذر ويخشى أن يكون هو الذي يتربّص به سوء المنقلب وسوء الختام..
    ولكن جميع الذين وجّه اليهم الحديث يومئذ ختم لهم بخير، وقضوا نحبهم شهداء في سبيل الله. وما بقي منهم حيّا سوى أبي هريرة والرّجّال لن عنفوة.



    ولقد ظلّ أبو هريرة ترتعد فرائصه خوفا من أن تصيبه تلك النبوءة. ولم يرقأ له جفن، وما هدأ له بال حتى دفع القدر الستار عن صاحب الحظ التعس. فارتدّ الرّجّال عن الاسلام ولحق بمسيلمة الكذاب، وشهد له بالنبوّة.

    هنالك استبان الذي تنبأ له الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء المنقلب وسوء المصير..

    والرّجّال بن عنفوة هذا، ذهب ذات يوم الى الرسول مبايعا ومسلما، ولما تلقّى منه الاسلام عاد الى قومه.. ولم يرجع الى المدينة الا اثر وفاة الرسول واختيار الصدّيق خليفة على المسملين.. ونقل الى أبي بكر أخبار أهل اليمامة والتفافهم حول مسيلمة، واقترح على الدّيق أن يكون مبعوثه اليهم يثبّتهم على الاسلام، فأذن له الخليفة..

    وتوجّه الرّجّال الى أهل اليمامة.. ولما رأى كثرتهم الهائلة ظنّ أنهم الغالبون، فحدّثته نفسه الغتدرة أن يحتجز له من اليوم مكانا في دولة الكذّاب التي ظنّها مقبلة وآتية، فترك الاسلام، وانضمّ لصفوف مسيلمة الذي سخا عليه بالوعود.



    وكان خطر الرّجّال على الاسلام أشدّ من خطر مسيلمة ذاته.

    ذلك، لأنه استغلّ اسلامه السابق، والفترة التي عاشها بالمدينة أيام الرسول، وحفظه لآيات كثيرة من القرآن، وسفارته لأبي بكر خليفة المسلمين.. استغلّ ذلك كله استغلالا خبيثا في دعم سلطان مسيلمة وتوكيد نبوّته الكاذبة.

    لقد سار بين الناس يقول لهم: انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" انه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر".. وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فأحق الناس بحمل راية النبوّة والوحي بعده، هو مسيلمة..!!

    ولقد زادت أعين الملتفين حول مسيلمة زيادة طافحة بسبب أكاذيب الرّجّال هذا. وبسبب استغلاله الماكر لعلاقاته السابقة بالاسلام وبالرسول.

    وكانت أنباء الرّجّال تبلغ المدينة، فيتحرّق المسلمون غيظا من هذا المرتدّ الخطر الذي يضلّ الناس ضلالا بعيدا، والذي يوسّع بضلاله دائرة الحرب التي سيضطر المسلمون أن يخوضوها.

    وكان أكثر المسلمين تغيّظا، وتحرّقا للقاء الرّجّال صحابي جليل تتألق ذكراه في كتب السيرة والتاريخ تحت هذا الاسم الحبيب زيد بن الخطّاب..!!

    زيد بن الخطّاب..؟

    لا بد أنكم عرفتموه..

    انه أخو عمر بن الخطّاب..

    أجل أخوه الأكبر، والأسبق..

    جاء الحياة قبل عمر، فكان أكبر منه سنا..

    وسبقه الى الاسلام.. كما سبقه الى الشهادة في سبيل الله..

    وكان زيد بطلا باهر البطولة.. وكان العمل الصامت. الممعن في الصمت جوهر بطولته.

    وكان ايمانه بالله وبرسوله وبدينه ايمانا وثيقا، ولم يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد ولا في غزاة.

    وفي كل مشهد لم يكن يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن الشهادة..!

    يوم أحد، حين حمي القتال بين المسلمين والمشركين والمؤمنين. راح زيد بن الخطاب يضرب ويضرب..

    وأبصره أخوه عمر بن الخطّاب، وقد سقط درعه عنه، وأصبح أدنى منالا للأعداء، فصاح به عمر.

    " خذ درعي يا زيد فقاتل بها"..

    فأجابه زيد:

    " اني أريد من الشهادة ما تريد يا عمر"..!!!

    وظل يقاتل بغير درع في فدائية باهرة، واستبسال عظيم.




    **



    قلنا انه رضي الله عنه، كان يتحرّق شوقا للقاء الرّجّال متمنيّا أن يكون الاجهاز على حياته الخبيثة من حظه وحده.. فالرّجّال في رأي زيد، لم يكن مرتدّا فحسب.. بل كان كذّابا منافقا، وصوليا.

    لم يرتدّ عن اقتناع.. بل عن وصولية حقيرة، ونفاق يغيض هزيل.

    وزيد في بغضه النفاق والكذب، كأخيه عمر تماما..!

    كلاهما لا يثير اشمئزازه، ولا يستجسش بغضاءه، مثل النفاق الذي تزجيه النفعيّة الهابطة، والأغراض الدنيئة.

    ومن أجل تلك الأغراض المنحطّة، لعب الرّجّال دوره الآثم، فأربى عدد الملتفين حول مسيلمة ارباء فاحشا، وهو بهذا يقدّم بيديه الى الموت والهلاك أعدادا كثيرة ستلاقي حتفها في معارك الردّة..

    أضلّها أولا، وأهلكها أخيرا.. وفي سبيل ماذا..؟ في سبيل أطماع لئيمة زيّنتها له نفسه، وزخرفها له هواه، ولقد أعدّ زيد نفسه ليختم حياته المؤمنة بمحق هذه الفتنة، لا في شخص مسيلمة بل في شخص من هو أكبر من خطرا، وأشدّ جرما الرّجّال بن عنفوة.

    **
    وبدأ يوم اليمامة مكهرّا شاحبا.

    وجمع خالد بن الوليد جيش الاسلام، ووزعه على مواقعه ودفع لواء الجيش الى من..؟؟

    الى زيد بن الخطّاب.

    وقاتل بنو حنيفة أتباع مسيلمة قتالا مستميتا ضاريا..

    ومالت المعركة في بدايتها على المسلمين، وسقط منهم شهداء كثيرون.

    ورأى زيد مشاعر الفزع تراود بعض أفئدة المسلمين، فعلا ربوة هناك، وصاح في اخوانه:

    " أيها الناس.. عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوّكم، وامضوا قدما.. والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله، أو ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي"..!!

    ونزل من فوق الربوة، عاضّا على أضراسه، زامّا شفتيه لا يحرّك لسانه بهمس.

    وتركّز مصير المعركة لديه في مصير الرّجّال، فراح يخترق الخضمّ المقتتل كالسهم، باحثا عن الرّجّال حتى أبصره..



    وهناك راح يأتيه من يمين، ومن شمال، وكلما ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه، غاص زيد وراءه حتى يدفع الموج الى السطح من جديد، فيقترب منه زيد ويبسط اليه سيفه، ولكن الموج البشري المحتدم يبتلع الرّجّال مرّة أخرى، فيتبعه زيد ويغوص وراءه كي لا يفلت..

    وأخيرا يمسك بخناقه، ويطوح بسيفه رأسه المملوء غرورا، وكذبا، وخسّة..

    وبسقوط الأكذوبة، أخذ عالمها كله يتساقط، فدبّ الرعب في نفس مسيلمة في روع المحكم بن الطفيل ثم في جيش مسيلمة الذي طار مقتل الرّجّال فيه كالنار في يوم عاصف..

    لقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر المحتوم، وبأنه هو والرّجّال بن عنفوة، والمحكم بن طفيل سيقومون غداة النصر بنشر دينهم وبناء دولتهم..!!

    وها هو ذا الرّجّال قد سقط صريعا.. اذن فنبوّة مسيلمة كلها كاذبة..

    وغدا سيقط المحكم، وبعد غد مسيلمة..!!

    هكذا احدثت ضربة زيد بن الخطاب كل هذا المدار في صفوف مسيلمة..

    أما المسلمون، فما كاد الخبر يذيع بينهم حتى تشامخت عزماتهم كالجبال، ونهض جريحهم من جديد، حاملا سيفه، وغير عابئ بجراحه..

    حتى الذين كانوا على شفا الموت، لا يصلهم بالحياة سوى بقية وهنانة من رمق غارب، مسّ النبأ أسماعهم كالحلم الجميل، فودّوا لو أنّ بهم قوّة يعودون بها الى الحياة ليقاتلو، وليشهدوا النصر في روعة ختامه..

    ولكن أنّى لهم هذا، وقد تفتحل أبواب الجنّة لاستقبالهم وانهم الآن ليسمعون أسماءهم وهم ينادون للمثول..؟؟!!

    **رفع زيد بن الخطاب ذراعيه الى السماء مبتهلا لربّه، شاكرا نعمته..

    ثم عاد الى سيفه والى صمته، فلقد أقسم بالله من لحظات ألا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة..

    ولقد أخذت المعركة تمضي لالح المسلمين.. وراح نصرهم المحتوم يقترب ويسرع..



    هنالك وقد رأى زيد رياح النر مقبلة، لم يعرف لحياته ختاما أروع من هذا الختام، فتمنّى لو ير**ه الله الشهادة في يوم اليمامة هذا..

    وهبّت رياح الجنة فملأت نفسه شوقا، ومآقيه دموعا،وعزمه اصرارا..

    وراح يضرب ضرب الباحث عن مصيره العظيم..

    وسقط البطل شهيدا..

    بل قولوا: صعد شهيدا..

    صعد عظيما، ممجّدا، سعيدا..

    وعاد جيش الاسلام الى المدينة ظافرا..

    وبينما كان عمر، يستقبل مع الخليفة أبي بكرو أولئك العائدين الظافرين، راح يرمق بعينين مشتاقين أخاه العائد..

    وكان زيد طويل بائن الطول، ومن ثمّ كان تعرّف العين عليه أمرا ميسورا..

    ولكن قبل أن يجهد بصره، اقترب اليه من المسلمين العائدين من عزّاه في زيد..

    وقال عمر:

    " رحم الله زيدا..

    سبقني الى الحسنيين..

    أسلم قبلي..

    واستشهد قبلي".

    **
    وعلى كثرة الانتصارات التي راح الاسلام يظفر بها وينعم، فان زيدا لم يغب عن خاطر أخيه الفاروق لحظة..

    ودائما كان يقول:

    " ما هبّت الصبا، الا وجدت منها ريح زيد".

    أجل..

    ان الصبا لتحمل ريح زيد، وعبير شمائله المتفوقة..

    ولكن، اذا اذن أمير المؤمنين، أضفت لعبارته الجليلة هذه، كلمات تكتمل معها جوانب الاطار.

    تلك هي:

    " .. وما هبّت رياح النصر على الاسلام منذ يوم اليمامة الا وجد الاسلام فيها ريح زيد.. وبلاء زيد.. وبطولة زيد.. وعظمة زيد..!!"

    **
    بورك آل الخطّاب تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    بوركوا يوم أسلموا.. وبوركوا أيام جاهدوا، واستشهدوا.. وبوركوا يوم يبعثون..!!

    __________________
    [IMG]]

  23. #23
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    خبيب بن عديّ - بطل.. فوق الصليب..!!


    والآن..

    افسحوا الطريق لهذا البطل يا رجال..

    وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان..

    تعالوا، خفاقا وثقالا..

    تعاولوا مسرعين، وخاشعين..

    وأقبلوا، لتلقنوا في الفداء درسا ليس له نظير..!!
    تقولون: أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل لم تكن دروسا في الفداء ليس لها نظير..؟؟



    أجل كانت دروسا..

    وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل وعن النظير..

    ولكنكم الآن أمام أستاذ جديد في فن التضحية..

    أستاذ لوفاتكم مشهده، فقد فاتكم خير كثير، جدّ كثير..

    الينا يا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد..

    الينا يا عشاق السموّ من كل عصر وأمد..

    وأنتم أيضا يا من أثقلكم الغرور، وظننتم بالأديان والايمان ظنّ السّوء..

    تعالوا بغروركم..!

    تعالوا وانظروا أية عزة، وأية منعة، وأي ثبات، وأيّ مضاء.. وأي فداء، وأي ولاء..

    وبكلمة واحدة، أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها الايمان بالحق على ذويه المخلصين..!!

    أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟

    انه موضوع درسنا اليوم، يا كلّ بني الانسان...!

    هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو الموضوع، وهو الدرس، وهو الاستاذ..

    اسمه خبيب بن عديّ.

    احفظوا هذا الاسم الجليل جيّدا.

    واحفظوه وانشدوه، فانه شرف لكل انسان.. من كل دين، ومن كل مذهب، ومن كل جنس، وفي كل زمان..!!




    **



    انه من أوس المدينة وأنصارها.

    تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر اليههم، وآمن بالله رب العالمين.

    كان عذب الروح، شفاف النفس، وثيق الايمان، ريّان الضمير.

    كان كما وصفه حسّان بن ثابت:

    صقرا توسّط في الأنصار منصبه

    سمح الشجيّة محضا غير مؤتشب

    ولما رفعت غزوة بدر أعلامها، كان هناك جنديا باسلا، ومقاتلا مقداما.

    وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه ابّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل.

    وبعد انتهاء المعركة، وعودة البقايا المهزومة من قريش الى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم، وحفظوا جيدا اسم المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!!




    **



    وعاد المسلمون من بدر الى المدينة، يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد..

    وكان خبيب عابدا، وناسكا، يحمل بين جبينه طبيعة الناسكين، وشوق العابدين..

    هناك أقبل على العبادة بروح عاشق.. يقوم الليل، ويصوم الناهر، ويقدّس لله رب العالمين..




    **



    وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يبلو سرائر قريش، ويتبيّن ما ترامى اليه من تحرّكاتها، واستعدادها لغزو جديد.. فاهتار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت.

    وانطلق الركب الى غايته حتى اذا بلغوا مكانا بين عسفان ومكة، نمي خبرهم الى حيّ من هذيل يقال لهم بنو حيّان فسارعوا اليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم، وراحوا يتعقبونهم، ويقتفون آثارهم..

    وكادوا يزيغون عنهم، لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة، ثم صاح في الذين معه:

    " انه نوى يثرب، فلنتبعه حتى يدلنا عليهم"..

    وساروا مع النوى المبثوث على الأرض، حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون..

    وأحس عاصم أمير العشرة أنهم يطاردون، فدعا أصحابه الى صعود قمة عالية على رأس جبل..

    واقترب الرماة المائة، وأحاطوا بهم عند سفح الجبلو وأحكموا حولهم الحصار..

    ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء.

    والتفت العشرة الى أميرهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.

    وانتظروا بما يأمر..

    فاذا هو يقول:" أما أنا، فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك..

    اللهم أخبر عنا نبيك"..



    وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب أميرهم عاصم واستشهد، وأصيب معه سبعة واستشهدوا..

    ونادوا الباقين، أنّ لهم العهد والميثاق اذا هم نزلوا.

    فنزل الثلاثة: خباب بن عديّ وصاحباه..

    واقترب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم، وبرطوهما بها..

    ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر، فقرر أن يموت حيث مات عاصم واخوانه..

    واستشهد حيث أراد..

    وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين ايمانا، وأبرّهم عهدا، وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!!

    وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من وثاقهما، ولكنه كان شديد الاحكام.

    وقادهما الرماة البغاة الى مكة، حيث باعوهما لمشركيها..

    ودوّى في الآذان اسم خبيب..

    وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل بدر، تذكّروا ذلك الاسم جيّدا، وحرّك في صدورهم الأحقاد.

    وسارعوا الى شرائه. ونافسهم على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم.

    وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا يعدّون لمصير يشفي أحقادهم، ليس منه وحده، بل ومن جميع المسلمين..!!

    وضع قوم أخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا..




    **



    أسلم خبيب قلبه، وأمره،ومصيره لله رب العالمين.

    وأقبل على نسكه ثابت النفس، رابط الجأش، معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر، ويلاشي الهول.

    كان الله معه.. وكان هو مع الله..

    كانت يد الله عليه، يكاد يجد برد أناملها في صدره..!

    دخلت عليه يوما احدى بنات الحارث الذي كان أسيرا في داره، فغادرت مكانه مسرعة الى الناس تناديهم لكييبصروا عجبا..

    " والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من عنب يأكل منه..

    وانه لموثق في الحديد.. وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة..

    ما أظنه الا ر**ا ر**ه الله خبيبا"..!!



    أجل آتاه الله عبده الصالح، كما آتى من قبل مريم بنت عمران، يوم كانت:

    ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها ر**ا..

    قال يا مريم أنّى لك هذا

    قالت هو من عند الله ان الله ير** من يشاء بغير حساب)..




    **



    وحمل المشركون الى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي الله عنه.

    ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه، ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه، وأنزل عليه سكينته ورحمته.

    وراحوا يساومونه على ايمانه، ويلوحون له بالنجاة اذا ما هو كفر لمحمد، ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!!

    أجل، كان ايما خبيب كالشمس قوة، وبعدا، ونارا ونورا..

    كان يضيء كل من التمس منه الضوء، ويدفئ كل من التمس منه الدفء، أم الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه ويسحقه..

    واذا يئسوا مما يرجون، قادوا البطل الى مصيره، وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه..

    وما ان بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين، وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه واعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه..

    وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام واخبات...



    وتدفقت في روحه حلاوة الايمان، فودّ لو يظل يصلي، ويصلي ويصلي..

    ولكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم:

    " والله لاتحسبوا أن بي جزعا من الموت، لازددت صلاة"..!!

    ثم شهر ذراعه نحو السماء وقال:

    " اللهم احصهم عددا.. واقتلهم بددا"..

    ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:

    ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي

    وذلك في ذات الاله وان يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع



    ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب..

    ولقد أعدّوا من جذوع النخل صليبا كبيرا أثبتوافوقه خبيبا.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم.

    وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود امام البطل المصلوب..!!

    لم يغمض عينيه، ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه.

    وبدأت الرماح تنوشه، والسيوف تنهش لحمه.

    وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش وقال له:

    " أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك"..؟؟

    وهنا لا غير انتفض خبيب كالاعصار وصاح، في قاتليه:

    " والله ما أحبّ أني في اهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة"..



    نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب اليوم.. مما جعل أبا سفيان، وكان لم يسلم بعد، يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!!




    **



    كانت كلمات خبيب هذه ايذانا للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها، فتناوشه في جنون ووحشية..

    وقريبا من المشهد كانت تحومطيور وصقور. كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان وجبة شهيّة..

    ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت، وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى.

    وفجأة طارت تشق الفضاء، وتمضي بعيدا.. بعيدا..



    لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب، فخدلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!!

    مضت جماعة الطير الى رحاب الفضاء متعففة منصفة.



    وعادت جماعة المشركين الى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية..

    وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسويف..!!



    كان خبيب عندما رفعوه الى جذوع النخل التي صنعوا منها صليبا، قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل الى ربه العظيم قائلا:

    " اللهم انا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا"..

    واستجاب الله دعاءه..

    فبينما الرسول في المدينة اذ غمره احساس وثيق بأن أصحابه في محنة..

    وتراءى له جثمان أحدهم معلقا..

    ومن فوره دعا المقداد بن عمرو، وال***ر بن العوّام..

    فركبا فرسيهما، ومضيا يقطعان الأرض وثبا.

    وجمعهما الله بالمكان المنشود، وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب، حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت ثراها الرطيب.



    ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب.

    ولعل ذلك أحرى به وأجدر، حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ، وفي ضمير الحياة، بطلا.. فوق الصليب..!!!
    [IMG]]

  24. #24
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    خالد بن سعيد - فدائيّ، من الرعيل الأول


    في بيت وارف النعمة، مزهو بالسيادة، ولأب له في قريش صدارة وزعامة، ولد خالد بن سعيد بن العاص، وان شئتم مزيدا من نسبه فقولوا: ابن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف..

    ويوم بدأت خيوط النور تسري في أنحاء مكة على استحياء، هامسة بأن محمدا الأمين يتحدث عن وحي جاءه في غار حراء، وعن رسالة تلقاها من الله ليبلغها الى عباده، كان قلب خالد يلقي للنور الهامس سنعه وهو شهيد..!!
    وطارت نفسه فرحا، كأنما كان وهذه الرسالة على موعد.. وأخذ يتابع خيوط النور في سيرها ومسراها.. وكلما سمع ملأ من قومه يتحدثون عن الدين الجديد، جلس اليهم وأصغى في حبور مكتوم، وبين الحين والحين يطعّم الحديث بكلمة منه، أو كلمات تدفعه في طريق الذيوع، والتأثير، والايحاء..!

    كان الذي يراه أنئذ، يبصر شابا هادئ السمت، ذكيّ الصمت، بينما هو في باطنه وداخله، مهرجان حافل بلحركة والفرح.. فيه طبول تدق.. ورايات ترتفع.. وأبواق تدوّي.. وأناشيد تصلي.. وأغاريد تسبّح..

    عيد بكل جمال العيد، وبهجة العيد وحماسة العيد، وضجة العيد..!!!

    وكان الفنى يطوي علىهذا العيد الكبير صدره، ويكتم سرّه، فان أباه لو علم أنه يحمل في سريرته كل هذه الحفاوة بدعوة محمد، لأزهق حياته قربانا لآلهة عبد مناف..!!

    ولكن أنفسنا الباطنة حين تفعم بأمر، ويبلغ منها حدّ الامتلاء فانها لا تمبك لافاضته دفعا..

    وذات يوم..

    ولكن لا.. فان انلاهر لم يطلع بعد، وخالد ما زال في نومه اليقظان، يعالج رؤيا شديدة الوطأة، حادة التأثير، نفاذة العبير..



    نقول اذن: ذات ليلة، رأى خالد بن سعيد في نومه أنه واقف على شفير نار عظيمة، وأبوه من ورائه يدفعه بكلتا يديه، ويريد أن يطرحه فيها، ثم رأى رسول الله يقبل عليه، ويجذبه بيمينه المباركة من ازاره فيأخذه بعيدا عن النار واللهب..

    ويصحو من نومه مزوّدا بخطة العمل في يومه الجديد، فيسارع من فوره الى دار أبي بكر، ويقصّ عليه الرؤيا.. وما كانت الرؤيا بحاجة الى تعبير..د

    وقال له أبو بكر:

    " انه الخير أريد لك.. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فان الااسلام حاجزك عن النار".

    وينطلق خالد باحثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يهتدي الى مكانه فيلقاه، ويسأل النبي عن دعوته، فيجيبه عليه السلام:

    " تؤمن بالله وحده، ولا تشرك به شيئا..

    وتؤمن بمحمد عبده ورسوله.. وتخلع عبادة الأوثان التي لا يسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع"..

    ويبسط خالد يمينه، فتلقاها يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفاوة، ويقول خالد:

    " اني أشهد أن لا اله الا الله...

    وأشهد أن محمدا رسول الله"..!!

    وتنطلق أغاريد نفسه وأناشيدها..

    ينطلق لمهرجان كله الذي كان في باطنه.. ويبلغ النبأ أباه.





    **



    يوم أسلم سعيد، لم يكن قد سبقه الى الاسلام سور اربعة أو خمسة،فهو اذن من الخمسة الأوائل المبكرين الى الاسلام.

    وحين يباكر بالاسلام واحد من ولد سعيد بن العاص، فان ذلك في رأي سعيد، عمل يعرّضه للسخرية والهوان من قريش، ويهز الأرض تحت زعامته.

    وهكذا دعا اليه خالد، وقال له:" أصحيح أنك اتبعت محمدا وأنت تسمعه يهيب آلهتنا"..؟؟

    قال خالد: " انه والله لصادق..

    ولقد آمنت به واتبعته"..

    هنالك انهال عليه أبوه ضربا، ثم زجّ به في غرفة مظلمة من داره، حيث صار حبيسها، ثم راح يضنيه ويرهقه جوعا وظكأ..

    وخالد يصرخ فيهم من وراء الباب المغلق عليه:

    " والله انه لصادق، واني به لمؤمن".

    وبدا لسعيد أن ما أنزل بولده من ضرر لا يكفي، فخرج به الى رمضاء مكة، حيث دسّه بين حجارتها الثقيلة الفادحة الملتهبة ثلاثة أيام لا يواريه فيها ظل..!!

    ولا يبلل شفتيه قطرة ماء..!!

    ويئس الوالد من ولده، فعاد به الى داره، وراح يغريه، ويرهبه.. يعده، ويتوعّده.. وخالد صامد كالحق، يقول لأبيه:

    " لن أدع الاسلام لشيء، وسأحيا به وأموت عليه"..

    وصاح سعيد:

    " اذن فاذهب عني يا لكع، فواللات لأمنعنّك القوت"..

    وأجابه خالد:

    ".. والله خير الرا**ين"..!!

    وغادر الدار التي تعجّ بالرغد، من مطعم وملبس وراحة..

    غادرها الى الخصاصة والحرمان..

    ولكن أي بأس..؟؟

    أليس ايمانه معه..؟؟

    ألم يحتفظ بكل سيادة ضميره، وبكل حقه في مصيره..؟؟

    ما الجوع اذن، وما الحرمان، وما العذاب..؟؟



    واذا وجد انسان نفسه مع حق عظيم كهذا الحق الذي يدعو اليه محمد رسول الله، فهل بقي في العالم كله شيء ثمين لم يمتلكه من ربح نفسه في صفقة، الله صاحبها وواهبها...؟؟

    وهكذا راح خالد بن سعيد يقهر العذاب بالتضحية، ويتفوق على الحرمان بالايمان..

    وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المؤمنين بالهجرة الثانية الى الحبشة، كان خالد بن سعيد، ممن شدّوا رحالهم اليها..



    ويمكث خالد هناك الى ما شاء الله ان يمكث، ثم يعود مع اخوانه راجعين الى بلادهم، سنة سبع، فيجدون المسلمين قد فرغوا لتوهم من فتح خيبر..

    ويقيم خالد بالمدينة وسط المجتمع المسلم الجديد الذي كان أحد الخمسة الأوائل الذين شهدوا ميلاده، وأسسوا بناءه، ولا يغزو النبي غزوة، ولا يشهد مشهدا، الا وخالد بن سعيد من السابقين..

    وكان خالد بسبقه الى الاسلام، وباستقامة ضميره ونهجه موضع الحب والتكريم..

    كان يحترم اقتناعه فلا يزيفه ولا يضعه موضع المساومة.

    قبل وفاة الرسول جعله عليه السلام واليا على اليمن..

    ولما ترامت اليه أنباء استخلاف أبي بكر، ومبايعته غادر عمله قادما الى المدينة..

    وكانه يعرف لأبي بكر الفضل الذي لا يطاول..

    بيد أنه كان يرى أن أحق المسلمين بالخلافة واحد من بين هاشم:

    العباس مثلا، أو عليّ ابن أبي طالب..

    ووقف الى جانب اقتناعه فلم يبايع أبا بكر..

    وظل أبو بكر على حبه له، وتقديره اياه لا يكرهه على أن يبايع، ولا يكرهه لأنه لم يبايع، ولا يأتي ذكره بين المسلمين الا أطراه الخليفة العظيم، وأثنى عليه بما هو أهله..

    ثم تغيّر اقتناع خالد بن سعيد، فاذا هو يشق الصفوف في المسجد يوما وأبو بكر فوق المنبر، فيبايعه بيعة صادقة وثقى..





    **



    ويسيّر أبا بكر جيوشه الى الشام، ويعقد لخالد بن سعيد لواء، فيصير أحد أمراء الجيش..

    ولكن يحدث قبل أن تتحرك القوات من المدينة أن يعارض عمر في امارة خالد بن سعيد، ويظل يلح على الخليفة أن يغيّر قراره بشأن امارة خالد..

    ويبلغ النبأ خالد، فلا يزيد على قول:

    " والله ما سرّتنا ولايتكم، ولا ساءنا عزلكم"..!!

    ويخفّ الصدّيق رضي الله عنه الى دار خالد معتذرا له، ومفسرا له موقفه الجديد، ويسأله مع من من القوّاد والأمراء يجب أن يكون: مع عمرو بن العاص وهو ابن عمه، أ/ مع شرحبيل بن حسنة؟

    فيجيب خالد اجابة تنمّ على عظمة نفسه وتقاها:

    " ابن عمّي أحبّ اليّ في قرابته، وشرحبيل أحبّ في أحبّ اليّ في دينه"..

    ثم اختار أن يكون جنديا في كتيبة شرحبيل بن حسنة..



    ودعا ابو بكر شرحبيل اليه قبل أ، ستحرّك الجيش، وقال له:

    " انظر خالد بن سعيد، فاعرف له من الحق عليك، مثل مل كنت تحبّ أن يعرف من الحق لك، لو كنت مكانه، وكلن مكانك..

    انك لتعرف مكانته في الاسلام..

    وتعلم أن رسول الله توفى وهو له وال..

    ولقد كنت وليته ثم رأيت غير ذلك..

    وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه، فما أغبط أحد بالامارة..!!

    وقد خيّرته في أمراء الجند فاختارك على ابن عمّه..

    فاذا نزل بك أمر تحتاج فيه الى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به: أبو عبيدة بن الجرّاح، ومعاذ بن جبل.. وليك خالد بن سعيد ثالثا، فانك واجد عندهم نصحا وخيرا..

    واياك واستبداد الرأي دونهم، أو اخفاءه عنهم"..



    وفي موقعه مرج الصفر بأرض الشام، حيث كانت المعارك تدور بين المسلمين والروم، رهيبة ضارية، كان في مقدمة الذين وقع أجرهم على اله، شهيد جليل، قطع طريق حياته منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده في مسيرة صادقة مؤمنة شجاعة..

    ورآه المسلمون وهم يفحصون شهداء المعركة، كما كان دائما، هادئ الّمت، ذكي الصمت، قوي التصميم، فقاول:

    " اللهم ارض عن خالد بن سعيد"..!!
    [IMG]]

  25. #25
    مميز الصورة الرمزية the searcher
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    الدولة
    الان فوق الثرى وغدا تحت الثرى
    المشاركات
    308
    معدل تقييم المستوى
    83

    رد: رجال حول الرسول (من هم وماذا فعلوا)

    ثابت بن قيس - خطيب رسول الله


    كان حسّان بن ثابت شاعر رسول الله والاسلام..

    وكان ثابت خطيب خطيب رسول الله والاسلام..

    وكانت الكلمات تخرج من فمه قوية، صادعة، جامعة رائعة..

    وفي عام الوفود، وفد على لمدينة وفد بني تميم وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " جئنا نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا"..
    فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم:

    " قد أذنت لخطيبكم، فليقل"..

    وقام خطيبهم عطارد بن حاجب ووقف يزهو بمفاخر قومه..

    ولما آذن بانتهاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم فأجبه..

    ونهض ثابت فقال:

    " الحمد لله، الذي في السموات والأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، ووسع كرسيّه علمه، ولم يك شيء قط الا من فضله..

    ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة. واصطفى من خير خلقه رسولا.. أكرمهم نسبا. وأصدقهم حديثا. وأفضلهم حسبا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين..

    ثم دعا الناس الى الايمان به، فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه.. أكرم الناس أحسابا، وخيرهم فعالا..

    ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق اجابة..

    فنحن أنصار الله، ووزراء رسوله"..




    **



    شهد ثابت بن قيس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد، والمشاهد بعدها.

    وكانت فدائيته من طراز عجيب.. جد عجيب..!!

    في حروب الردّة، كان في الطليعة دائما، يحمل راية الأنصار، ويضرب بسيف لا يكبو، ولا ينبو..

    وفي موقعة اليمامة، التي سبق الحديث عنها أكثر من مرة، رأى ثابت وقع الهجوم الخاطف لذي شنّه جيش مسيلمة الكذاب على المسلمين أول المعركة، فصاح بصوته النذير الجهير:

    " والله، ما هذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"..

    ثم ذهب بغير بعيد، وعاد وقد تحنّط، ولبس اكفانه، وصاح مرة أخرى:

    " اني أبرأ اليك مما جاء به هؤلاء..

    يعني جيش مسيلمة..

    وأعتذر اليك مما صاع هؤلاء..

    يعني تراخي المسلمين في القتال"..

    وانضم اليه سالم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحمل راية المهاجرين..

    وحفر الاثنان لنفسيهما حفرة عميقة ثم نزلا فيها قائمين، وأهالا الرمال عليهما حتى غطت وسط كل منهما..

    وهكذا وقفا..طودين شامخين، نصف كل منهما غائص في الرمال مثبت في أعماق الحفرة.. في حين نصفهما الأعلى، صدرهما وجبهتهما وذراعهما يستقبلان جيوش الوثنية والكذب..

    وراحا يضربان بسيفهما كل من يقترب منهما من جيش مسيلمة حتى استشهدا في مكانهما، ومالت شمس كل منهما للغروب..!!

    وكان مشهدهما رضي الله عنهما هذا أعظم صيحة أسهمت في ردّ المسلمين الى مواقعهم، حيث جعلوا من جيش مسيلمة الكذاب ترابا تطؤه الأقدام..!!




    **



    وثابت بن قيس.. هذا الذي تفوّق خطيبا، وتفوّق محاربا كان يحمل نفسا أوابة، وقلبا خاشعا مخبتا، وكان من أكثر المسلمين وجلا من الله، وحياء منه..




    **



    لما نزلت الآية الكريمة:

    ( ان الله لا يحب كل مختال فخور)..

    أغلق ثابت باب داره، وجلس يبكي..وطال مكثه على هذه الحال، حتى نمى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، فدعاه وسأله.

    فقال ثابت:

    " يا رسول الله، اني أحب الثوب الجميل، والنعل الجميل، وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين"..

    فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضيا:

    " انك لست منهم..

    بل تعيش بخير..

    وتموت بخير..

    وتدخل الجنة".

    ولما نزل قول الله تعالى:

    ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي..

    ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)..

    أغلق ثابت عليه داره، وطفق يبكي..

    وافتقده الرسول فسأل عنه، ثم أرسل من يدعوه...

    وجاء ثابت..

    وسأله الرسول عن سببب غيابه، فأجابه:

    " اني امرؤ جهير الصوت..

    وقد كنت أرفع صوتي فوق صوتك يا رسول الله..

    واذن فقد حبط عملي، وأنا من أهل النار"..!!

    وأجابه الرسول عليه الصلاة والسلام:

    " انك لست منهم..

    بل تعيش حميدا..

    وتقتل شهيدا..

    ويدخلك الله الجنة".




    **



    بقي في قصة ثابت واقعة، قد لا يستريح اليها أولئك الذين حصروا تفكيرهم وشعورهم ورؤاهم داخل عالمهم الماديّ الضيّق الذي يلمسونه، أو يبصرونه، أو يشمّونه..!

    ومع هذا، فالواقعة صحيحة، وتفسيرها مبين وميّسر لكل من يستخدم مع البصر، البصيرة..

    بعد أن استشهد ثابت في المعركة، مرّ به واحد من المسلمين الذين كانوا حديثي عهد بالاسلام ورأى على جثمان ثابت دعه الثمينة، فظن أن من حقه أن يأخذها لنفسه، فأخذها..

    ولندع راوي الواقعة يرويها بنفسه:

    ".. وبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه.

    فقال له: اني أوصيك بوصية، فاياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه.

    اني لما استشهدت بالأمس، مرّ بي رجل من المسلمين.

    فأخذ درعي..

    وان منزله في أقصى الناس، وفرسه يستنّ في طوله، أي في لجامه وشكيمته.

    وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق الابرمة رحل..

    فأت خالدا، فمره أن يبعث فيأخذها..

    فاذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله أبي بكر، فقل له: ان

    عليّ من الدين كذا كذا..

    فليقم بسداده..

    فلما استيقظ الرجل من نومه، أتى خالد بن الوليد، فقصّ عليه رؤياه..

    فأرسل خالد من يأتي بالدرع، فوجدها كما وصف ثابت تماما..

    ولما رجع المسلمون الى المدينة، قصّ المسلم على الخليفة الرؤيا، فأنجز وصيّة ثابت..

    وليس في الاسلام وصيّة ميّت أنجزت بعد موته على هذا النحو، سوى وصيّة ثابت بن قيس..



    حقا ان الانسان لسرّ كبير..

    ( ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم ير**ون).
    [IMG]]

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •